قال رحمه الله: [فصل: إذا وصل بإقراره ما يسقطه، مثل أن يقول له: عليّ ألف لا تلزمني، ونحوه؛ لزمه الألف] هذه مسألة الوصل، وهي تابعة لشروط الإقرار، وهي عدم رجوع المقر عن إقراره، وعدم إبطاله من حيث الأصل؛ لأن الرجوع يؤثر في مسائل معينة، ولا يؤثر في الحقوق المالية وحقوق الآدميين، لكنه لو رجع عن حق من حقوق الله عز وجل فإنه يؤثر، والأصل في ذلك قصة ماعز، وقد تقدمت معنا في باب الزنا.
فلو وصل بإقراره ما يبطله، فحينئذٍ يكون هذا الإبطال نوعاً من الرجوع، كأنه أقر بشيء ثم رجع عنه، فهذه المسألة يبحثها العلماء هنا، وهي في الحقيقة تابعة لمسائل الرجوع، فقال رحمه الله: [إذا وصل بإقراره ما يسقطه، مثل أن يقول: له عليّ ألف لا تلزمني ونحوه] فقوله: (له عليّ ألف) هذا يثبت به الحق، وقوله: (لا تلزمني) يسقط به الحق؛ فوصل بإقراره ما يسقطه.
وهذا نوع من الرجوع ونوع من الإبطال لا يعتد به ولا يُقبل، فنقول له: لما قلت: (لك عليّ ألف) ثبتت الألف لصاحبها، وقولك: (لا تلزمني) رجوع عن حق مالي، والرجوع في الإقرار عن الحقوق المالية وحقوق الآدميين لا يؤثر؛ لأنه قد ثبت بإقراره واعترافه في الحق، وحينئذٍ لا نعدل عن هذا إلا بيقين أو غالب ظن مثله، فإذا قال: ليس له عليّ شيء؛ فإنه يتهم بأنه يريد أن يسقط عن نفسه التبعات، فلا يُقبل منه قوله: لا تلزمني، فتثبت الألف.
قال رحمه الله: [وإن قال: كان له عليّ وقضيته.
فقوله بيمينه] هذا يسميه العلماء قبول الإقرار كلاً دون قبوله للتجزئة، وهذا مذهب بعض العلماء.
فإذا قال: له عليّ ألف وقضيته، قالوا: في هذه الحالة قد جمع في إقراره بين أصلين لا يمكن إسقاطهما؛ لأنهما جاءا في إقرار واحد، فلا يمكن أن نقول: نقبل إقراره ولا نقبل قضاؤه، ومن هنا قالوا: مع يمينه؛ لأنها يمين تهمة، ويقبل منه ذلك.
قال رحمه الله: [ما لم تكن بينة] ما لم تكن بينة تثبت أنه قد دينه أو أعطاه، بمعنى: أن عندنا أصلين: إقراره بالألف وقضاؤه لها، فأنت إذا فصلت في هذه القضية جاءك المقر وأقر بهما معاً، حينئذ تقول: إما أن أقبل الإقرار كلاً وإما أن نسقطه كلاً، فتقول: القول قوله بيمينه، فقبلت إقراره وأعطيته اليمين حتى يتخلص من الحق، وإما أن نقول: أن يثبت المدعي الأصل الأول، فيقول: له عليّ ألف، وقامت البينة على الألف، فحينئذ لا يقبل قوله: وقضيته، فتقبل جزء الإقرار بإثبات الألف أو يقيم بينة على السداد.
قال رحمه الله: [أو يعترف بسبب الحق] كأن يقول: من بيع من هبة ونحو ذلك فيسنده إلى السبب.
قال رحمه الله: [وإن قال: له عليّ مائة، ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه، ثم قال: زيوفاً أو مؤجلة؛ لزمه مائة جيدة حالة].
هناك شيء يسمونه الإطلاق وشيء يسمونه التقييد، فالمطلق في عرف يتقيد بهذا العرف، فإذا قال: له عليّ مائة، فالعرف عندنا أنها الريال السعودي، فنقول له: ادفع مائة ريال، فلو أنه قال: له علي مائة.
وسكت، ثم ذكر عملة منحطة قيمتها لا تساوي الريال فإننا نلزمه بالأغلى؛ لأنه المنصرف عرفاً وهو الأصل، فكونه سكت سكوتاً يمكنه أن يصف ولم يصف ثبت به الأول، وكان بإمكانه أن يستدرك، لكنه لم يستدرك لنفسه، ويثبت كون المائة جيدة صحيحة غير مزيفة، وكون العملة أعلى، ولو كان هناك عملة في البلد وعلمت أن غيرها أعلى، فالمعروف أنه عند الإطلاق تنصرف إلى الجيدة الصحاح فلا يقبل قوله: مكسرة؛ لأن قوله مكسرة يقع هروباً مما أقر به، فكما أن قوله: لا تلزمني، يسقط كل المقر به، فهنا يسقط جزء المقر به، لكنه إسقاط بنوع من التلاعب والتحايل، ولو فتح هذا الباب سقطت حقوق الناس.
ومن أهل العلم من قال: إنه يقبل منه، حتى ولو مضى وقت، إذا سأل وبين.
وهذا مبني ومقيس على مسألة استثناء البعض من الكل.
قال رحمه الله: [وإن أقر بدين مؤجل فأنكر المقر له الأجل؛ فقول المقر مع يمينه] مثاله: أقر محمد لعبد الله بألف، قال: ولكنها دين مؤجل، فقال المقر له: لا.
بل إني أعطيته الألف وديعة آخذها منه حينما أريد، فحينئذٍ يلزمه الدفع فوراً؛ لأن الأصل في الحقوق أنها تدفع فوراً، وبناء على ذلك نقول: إقراره بالألف أو بالحق يوجب عليه دفعه لصاحبه، ما لم يثبت ما خالف الأصل وهو التأجيل.
وهذا راجع إلى الأصل وما خالف الأصل، فالمطلق يقيد به، فعندنا الذهب المغشوش والذهب الخالص، والصحاح والمزيفة والمكسرة، والصحاح والمكسرة والزيوف والخالصة والعملة الغالية، كلها تنصرف إلى المعروف عرفاً حتى يثبت خلافها؛ لأنها الأصل.
قال رحمه الله: [وإن أقر أنه وهب أو رهن وأقبض، أو أقر بقبض ثمن أو غيره، ثم أنكر القبض ولم يجحد الإقرار، وسأل إحلاف خصمه؛ فله ذلك] هذه المسألة قد تشكل على البعض وصورتها: أن كون شخصاً يقول: وهبت فلاناً وأقبضته، فحينما يعترف أنه وهب فلاناً وأقبضه معناه أنه يعترف أنه ملّكه؛ لأن الهبة تملك بالقبض -وقد بينا هذا في باب الهبة- إذاً ما الذي يجعل المقر له ينكر أنه قبض؟ ما الذي يجعل المقر يعدل عن الإقباض؟ هذا يتأتى في مسائل الخصومات إذا حصل ضرر من الشيء الموهوب، فمثلاً: أعطاه عمارة هبة ثم سقطت العمارة على أربعة أشخاص وقتلتهم، فالدية لأربعة أشخاص أعظم من قيمة العمارة، فحينئذ إذا أثبت أنه وهبه وأقبضه.
فهذا من مصلحة المقر، والمقر له من مصلحته أن يقول: وهب ولكن ما أقبضني، وحينئذ يرد الإشكال: هل قبض أو لم يقبض؟ وانتقال اليد موقوف على القبض؛ لأن الهبة بالإجماع تثبت بالقبض لقصة أبي بكر رضي الله عنه مع ابنته عائشة: (إني كنت قد نحلتك ثلاثمائة وسقاً جاداً من نخل نخلي بالغابة، فلو أنك احتجتيه وقبضتيه لكان ملكاً لك، أما إنك لم تفعلي ذلك فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء) وهذا يدل على اشتراط القبول في الهبة، فحينئذ إذا ادعى أنه أقبضه، وقال الموهوب له: ما أقبضه، فإنه أول شيء يقر أنه وهبه، ثم يقر أنه أقبضه، فالمقر له يتهرب من قضية الإقباض، فإذا قال: ما أقبضني، يقول: أنا أسأل القاضي أن يحلفه أني ما أقبضته؛ كان له ذلك المراد، ولذلك بعض الشراح يقول: كيف يقر الخصم أنه أعطاه ثم نقول له: يحلف؟! ولا يتأتى إلا في مسائل فيها الخصومة والنزاع التي يخشى الإنسان فيها من بقاء الملكية واليد، خاصة إذا حدث الضرر من العين ونحو ذلك.
قال رحمه الله: [وإن باع شيئاً أو وهبه أو أعتقه، ثم أقر].
كإقراره في الرقيق والعبيد، كأن يجني عبداً جناية، فمن المصلحة أن لا يكون العبد في ملكه، وحينئذ يرد النزاع في الإقباض وعدمه؛ لأن الملكية تنتقل بالقبض.
قال رحمه الله: [وإن باع شيئاً أو وهبه أو أعتقه، ثم أقر أن ذلك كان لغيره لم يقبل قوله، ولم ينفسخ البيع ولا غيره ولزمته غرامته] الصورة الأولى: إذا قال له: بعتك هذا الكتاب، فأخذ الكتاب بعشرة، ثم بعد البيع ادعى البائع أن الكتاب ليس له، فحينئذ عقد البيع ثابت على وجه لا إشكال فيه، وهو عقد شرعي أمرنا الله بالوفاء به فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فإذا جاء البائع يدعي أنه ملك لغيره، ففي هذه الحالة الأصل أن هذا الكتاب انتقل إلى المشتري، فإقراره بعد البيع لم يصادف شيئاً يملكه، فقد تم عقد شرعي وهو البيع ثم جاء إقرار لم يصادف محلاً، فهو يقر بشيء لم يعد له عليه يد؛ لأن البيع قد تم وانتهى، فمن هنا سقط إقراره بعد ثبوت البيع، لكنه بهذا الإقرار قد أقر أنه تصرف في مال الغير، فاشتمل إقراره على أمرين: الأول: أنه أراد أن يسقط البيع، والقاعدة الشرعية تقول: الإعمال أولى من الإهمال، الأصل إعمال العقود لا إهمالها ولا إلغاؤها؛ فنبقي البيع سارياً في إعماله، فتثبت به الملكية، ثم جاء إقراره بهذا المال للغير أشبه بالشهادة، فهو ليس إقراراً يوجب ثبوته؛ لأنه لم يملكه، وشرط صحة الإقرار: أن يقر بشيء يملكه وبشيء له حق أن يقر فيه.
لكن الجانب الثاني: وهو كونه يقول: هذا الكتاب لزيد وليس لعمرو الذي اشترى مني، فحينئذ قد أثبت بنفسه جناية على مال زيد، يعني أنه باع مال زيد، وحينئذ نقول له: تغرم لزيد المال، ويصحح البيع إعمالاً له على الظاهر.
الصورة الثانية: يقول: أنا لم أكن مالكاً له، فإذا قال: لم أكن مالكاً له؛ فحينئذ جاء بشرط يؤثر في البيع، ويورد الشبهة في العقد، أما أن يقول: هذا الكتاب ليس لعمرو الذي اشتراه وإنما هو لزيد فهذا إقرار لم يصادف محلاً.
هذا هو وجه التفريق بين الإقرارين، حينما ينفي أنه ملكه فحينئذ لا إشكال؛ لأن من شرط صحة العقد أن يكون مالكاً له، وحينما يقول: هو لفلان وليس لفلان فقد جاء إقراره غير مصادف للمحل المعتبر، فيسقط في الثاني ويعتد به في الأول.
قال رحمه الله: [وإن قال: لم يكن ملكي ثم ملكته بعد، وأقام بينة قبلت] إذا قال: لم يكن ملكي وبعته وأنا لا أملكه؛ لأن الإنسان قد يسهو ويأخذ كتاب صاحبه يظنه كتابه فيبيعه، ثم لما باعه قال: هذا الكتاب ليس ملكاً لي، بل ملكاً لغيري، وأقام بينة على أن فلاناً جاء بكتابه ووضعه عنده وكلا الكتابين يشبه أحدهما الآخر فأخطأ وباع، فحينئذ يقبل قوله ويحكم بانفساخ البيع؛ لأنه باع ما لا يملكه، ومن شرط صحة البيع أن يكون لما يملكه.
قال رحمه الله: [إلا أن يكون قد أقر أنه ملكه أو أنه قبض ثمن ملكه لم يقبل] هذا يسمونه التناقض: أن يكون عنده إقرار سابق ثم يأتي بإقرار لاحق، يقصد به إلغاء الإقرار السابق وإبقاء الإقرار اللاحق، يقول: يا فلان! بكم هذا الكتاب؟ قال: بعشرة، قال: هو ملك لك؟ قال: نعم، هو ملك لي، وأقر بملكيته، ثم جاء وقال: ليس بملك لي، فحينئذ يريد إبطال البيع، فلا نقبل منه إقراره بأنه غير مالك.
إذاً شرط قبول إقراره بأنه غير مالك: أن لا تكون هناك تهمة في مناقضته لإقرار سابق، أما لو ثبت أنه أقر سابقاً فإنه يسقط الثاني ويبقى الحكم الأول.