وقوله: (فله الدفع) هذا الدفع فيه تفصيل: هل هو واجب؟ أو غير واجب؟ والعلماء مجمعون: أن من حق الإنسان أن يدافع عن نفسه، وعرضه؛ لثبوت النصوص بهذا، ولكن هل هذا على سبيل الفرض؟ أو على سبيل التخيير، أعني: التوسعة؟ يرى المصنف رحمه الله وهو مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه أن الدفع واجب، وأن الإنسان إذا هُجم عليه من أجل أن يسفك دمه، أو ينتهك عرضه، أو يؤخذ ماله بغير حق؛ أنه يجب عليه أن يدفع، إلا في زمان الفتنة.
والإمام أحمد رحمه الله له مسلك عجيب في التعامل مع النصوص، وهذا المسلك له أصل عند السلف والأئمة والصحابة رضوان الله عليهم، وهو أن يعمل كل نص في مورده، ولذلك استثنى حال الفتنة، وجعل أحاديث الفتن التي ندب فيها النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أن يكون عبد الله المقتول ولا يكون القاتل؛ جعلها محمولة على الفتن التي فيها تأويل، وما يقع بين المسلمين من الفتن، فالإنسان يحفظ نفسه فيها، وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يلزم بيته، قال: (ولو دخل علي في بيتي أأحمل معهم؟ قال: إذن شاركت القوم، قال: فما أفعل.
قال: الزم بيتك، قال: حتى ولو دخل علي في بيتي؟ قال: ولو دخل عليك في بيتك) فهذا كله يدل على أن الفتن مستثناة.
فجعل النصوص العامة في وجوب حفظ الإنسان لنفسه وعرضه وماله على ما هي عليه، وجعل الدفع هنا على سبيل الوجوب؛ لأنها دالة على الوجوب، واستثنى أحوال الفتن.
ومن دقة المصنف رحمه الله أنه جعل لكل دليل دلالته، وجعل العام على عمومه، والخاص على خصوصه، ولم يحكم بالتعارض بينها.
قال رحمه الله: (فله الدفع بما يغلب على ظنه): الشريعة كلفت المسلم بغالب الظن، بمعنى: أنه يجتهد ويقدر، فإذا غلب على ظنه أن الرجل سيقتله، ولا يمكن بحال أن يخرج من هذا القتل، وينجو منه إلا إذا قتله، فحينئذٍ يقتله، وغالب الظن متعبد به شرعاً، ومن تأمل النصوص في العبادات والمعاملات لم يشك أن الشريعة تعبدت بغالب الظن، وعلى ذلك جرت النصوص، وللإمام العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام كلام نفيس في أن الشريعة تبني أحكامها على غالب الظن، وغالب الظن: هو نظر الإنسان.