فإذا تابوا ورجعوا وأعلنوا توبتهم لله عز وجل ورجعوا إلى جماعة المسلمين فإنه يسقط عنهم حق الله عز وجل، ولكن حق العباد من المظالم التي ارتكبوها والأموال التي أخذوها ونحو ذلك من المظالم يطلب فيها القصاص، ويؤخذون بها كما سيبينه المصنف رحمه الله.
إذاً: في حد الحرابة أمران: الأمر الأول: حق الله عز وجل وهو وجوب قتلهم إذا كان محكوماً بقتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذا الحق يسقط إذا تابوا، ولا يتعين قتلهم ما لم يكونوا قد قتلوا أحداً، فإذا قتلوا أحداً عمداً عدواناً وتمت شروط القصاص، دفع بهذا المحارب إلى ولي الدم، ويقال له: أنت بالخيار، إن شئت أخذت حقك، وإن شئت أخذت الدية، وإن شئت عفوت، فيجري عليه ما يجري على القصاص.
فإن قيل: ما الفرق؟ قلنا: الفرق أنهم لو أُخذوا قبل توبتهم فإنه يجب قتلهم؛ لأنهم قتلوا، ويصلبون، ولكن إذا تابوا يُجعل الخيار لولي الدم، فهنا فرق بين الحالتين.
الحالة الأولى: يتعين قتلهم ولو سامح أولياء المقتول.
والحالة الثانية: إذا تابوا ورجعوا وأنابوا إلى الله عز وجل وصلحت أحوالهم نقول لهم: هذا ينفع فيما بينكم وبين الله، أما حقوق العباد فواجب عليكم أن تؤدوها وتردوها، وهذا هو أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور.
وعن بعض السلف وهو قول الإمام مالك رحمه الله أنها تسقط عنهم جميع الحقوق من السرقة والزنا وشرب الخمر وغيرها من الحقوق، ولكن لا يسقط عنهم الدم، فإذا قتلوا أحداً فإنهم يؤخذون بالقصاص، ومذهب مالك رحمه الله من أشد المذاهب الأربعة في الاحتياط للدماء، وهذا معروف عنه، وقد تقدمت الإشارة إلى جملة من المسائل التي كان يحتاط فيها للدماء، ويرى أن دم المقتول لا يذهب هدراً.
ومن هنا قال: كل شيء يسقط عنهم من الحدود وإذا تابوا نفعتهم التوبة، وأما بالنسبة للدماء فإنه لا تنفعهم التوبة في حقوق العباد، أي: لا يسقط عنهم القصاص، وإذا قلنا: لا يسقط عنهم القصاص ولا الحقوق الواجبة عليهم فإنا نطبق شروط كل حد على حِدة، وحينئذٍ في حد الحرابة لا نعتبر المماثلة والمكافأة على التفصيل الذي ذكرناه، ولكن إذا تابوا فإنها تعتبر المماثلة والمكافأة واستيفاء الشروط المعتبرة للحكم بالقصاص.
هذا الفرق بين حالة كونهم تابوا وبين كونهم أُخذوا بحد الحرابة.
وقوله: [سقط عنهم ما كان لله] أي: أنه لا يجب على القاضي أن يقيم عليهم الحد، والمراد به حد القتل وما تقدم من كون الحرابة لا يسقط حدها ولو عفا فيها أولياء الحقوق عن حقوقهم، لأن هذا الحق لله عز وجل.
وقوله: [من نفي] (من) بيانية، والنفي يكون حقاً واجباً في موضعين: في حد الحرابة، وفي حد الزنا، ويرجع فيه إلى نظر ولي الأمر إذا كان نفياً تعزيرياً.
والنفي التعزيري أن يجتهد القاضي فيرى من المصلحة إخراج هذا الشخص من هذا البلد، فينفيه إلى بلد ما، طلباً لاستقامته أو إبعاداً له عن بيئة فاسدة تعينه على الفساد، وهذا صحيح؛ فإن النفي يعين على التوبة وعلى صلاح الحال، وهذا النوع من النفي التعزيري له أدلة صحيحة، منها: قصة التائب الذي قتل مائة نفس، فقال له العالم: (ولكن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون فاذهب إليهم) فأمره أن يترك قريته، وحينئذٍ يكون في الإبعاد عن مدينته وبيئته ما يعينه على الصلاح.
ولذلك ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لعن المخنثين من الرجال، ولعن المترجلات من النساء) كما في حديث ابن عباس في صحيح البخاري، وفي رواية: (ونفى فلاناً وفلاناً) فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم النفي.
ومن هنا إذا وجد شخص فيه فساد وعهر بحيث ينشر الفساد بين الناس فإنه ينفى عن هذا الموضع؛ حتى لا يضر غيره، فما وجدنا طعاماً فاسداً بين طعام صالح يصلحه، وإنما وجدنا أنه يسري فساده إليه.
وأما بالنسبة لنفي الصحابة فقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنفى نصر بن حجاج حينما وقعت به الفتنة في المدينة، ونفى كذلك صبيغاً حينما تكلم في آيات القرآن في المرسلات والعاصفات، وأورد الشبه، فنفاه رضي الله عنه، وهذا يسمى النفي التعزيري.
والنوع الأول نفي العقوبة، وهو نفي الحرابة ونفي الزنا، والفرق بينهما: أنهما يجتمعان في شيء ويفترقان في أشياء، فيجتمعان في كون كل منهما واجباً، فيجب النفي في عقوبة الزنا للبكر على الصحيح من أقوال العلماء، ويشمل الذكور والإناث، ويجب النفي أيضاً في عقوبة الحرابة على ظاهر القرآن من الأمر؛ لأن الله جعله جزاءً محتماً لازماً ينبغي تنفيذه.
ويفترقان في أن نفي الزنا محدد ونفي الحرابة غير محدد، وعند من يقول: نفي الحرابة هو الإبعاد كما يختار المصنف أنهم أن لا يتركوا يأوون إلى بلد، يختلف عن نفي الزنا، فإن نفي الزنا يكون على مسافة القصر، ونفي الحرابة يكون إلى أبعد.
وبين رحمه الله أن التوبة تنفع، وهذا ظاهر القرآن؛ لقوله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34] فبين سبحانه وتعالى أن شرط التوبة عدم القدرة، فإذا كان الأشخاص المحاربون قد تابوا وأصلحوا قبل قدرة السلطان والوالي عليهم سقط حق الله عز وجل في وجوب تنفيذ حد الحرابة عليهم.
وقوله: [من نفي وقطع] (من) بيانية (نفي وقطع) فلا تقطع أيديهم إذا اعتدوا على الأموال، ولكن يجب عليهم ضمان هذه الأموال التي أخذوها وردها إلى أهلها، فلو أنهم اعتدوا على قافلة وأخذوا منها مائة ألف ريال وجاءوا وقالوا: نحن تائبون، وتركنا الحرابة، وسلموا أنفسهم، نقول: نسأل الله أن يتقبل منكم توبتكم، وعليكم أن تضمنوا المال المسروق الذي أخذتموه كاملاً.
وفي قرصنة البحار لو أنهم اعتدوا على سفينة أو مركب فأخذوا منه حلي الناس وجواهرهم فإنه يجب ضمانه كاملاً، ولا تسقط عنهم حقوق المخلوق، ومن هنا فإن الأصول الشرعية تقتضي أن مال المسلم له حرمة، وأن اعتداءهم على المال المحترم شرعاً وهو مال المسلم يوجب عليهم الضمان، وقد تقدم معنا بيان هذه الأصول في حد السرقة، وأن السارق يجب عليه ضمان المسروق.
قوله: [وصلب] أي: أنه لا تقطع أيديهم ولا يصلبون، فمثلاً: لو أنهم قتلوا وتابوا، وكان المقتول مكافئاً للقاتل، فحينئذٍ ننظر في طريقة القتل، فالحرابة لو أن ثلاثة كلهم محاربون، أحدهم أمسك السلاح لكي يمنع الشخص من أن يتحرك فهدده، والثاني ربطه وأوثقه، والثالث ضربه في موضع فقتله، فكلهم يقتلون، ويستوي من باشر ومن كان معيناً على القتل.
لكن بالنسبة لحد القصاص لو اجتمع ثلاثة، فكانت سببية ومباشرة على التفصيل الذي ذكرناه في باب القصاص، وكانت السببية لا تفضي إلى إزهاق الروح، فحينئذٍ يجب القصاص على من باشر، وتسقط السببية على الأصل الذي ذكرناه أن المباشرة تسقط حكم السببية، بشرط أن تكون السببية غير مفضية إلى الزهوق.
إذاً: هناك فرق بين عقوبة الحرابة وبين عقوبتهم أو أخذهم بالحقوق بعد توبتهم، فلو أن أحدهم قطع يد شخص، ففي الحرابة نقتص من هذا القاطع، ونقطع يده على التفصيل الذي تقدم معنا في القصاص في الأطراف، ولو أنه فقأ عيناً فقأنا عينه، ولذلك يؤخذ بجريمته، ويقتص من الفاعل المباشر، ثم المشتركون في الجريمة ننظر إذا كان اشتراكهم يؤدي إلى الحكم بكونهم مجرمين كلهم، فإننا نحكم بوجوب القصاص عليهم جميعاً، وهذا تقدم معنا في القصاص في النفس والأطراف، وأن قتل الجماعة بالواحد هو الصحيح عند العلماء رحمهم الله؛ لأن كل واحد منهم يصدق عليه أنه قاتل، وبينا وجه ذلك وخلاف العلماء فيه ووجه الترجيح لهذا القول.
إذا ثبت هذا فإننا نسقط عنهم الصلب والقطع، فلا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولا يصلبون.
ففي قوله: [والصلب]: لو حكمنا بالقصاص بأن واحداً منهم قتل مكافئاً، فقلنا له: توبتك تنفعك فيما بينك وبين الله، ولكن يجب أن يقتص منك لحق المقتول، واعترف أنه قتله، فقال أولياء المقتول: لا نسامح بل نريد القصاص، فإنه إذا اقتص منه وقتل لا يصلب؛ لأنه قد تاب، والصلب حق لله عز وجل فيما إذا كان قبل التوبة، وهذا على الأصل الذي ذكرناه أن التوبة تسقط هذه العقوبات؛ لأنها حق لله عز وجل.
وقوله: [وتحتم قتل] تقدم أنه إذا ثبت أنهم فعلوا موجب القتل وعفا أولياء المقتول، لم يؤثر في الحرابة وأنهم يقتلون، وقلنا: إن الحق لله عز وجل ولو عفا أولياء المقتول، ولكن لو تابوا قبل أن يقدر عليهم سقط تحتم القتل، ونقول: لكم أن تعفوا، وإذا عفوتم سقط القصاص، إذاً: يكون لهم الخيار في حال التوبة، ولا خيار في وجوب وتحتم القتل إذا لم يتوبوا.
وقوله: [وأخذ بما للآدميين من نفس وطرف ومال إلا أن يعفى له عنها] أي: فلو أنه قتل يقتل.
وقوله: [وأخذ بما للآدميين] هذا يجعلنا نرجع إلى باب القصاص، فإن كانت جناية الذي جنى في النفس نظرنا إلى شروط القصاص في النفس، وإن كانت جنايته على الأطراف نظرنا إلى القصاص في الأطراف، وهكذا بالنسبة لبقية الأحكام.