وقوله: [وإن أخذ كل واحد من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق ولم يقتلوا، قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا، ثم خلي] هذه المرتبة الثالثة في العقوبة، أنهم لو اعتدوا على المال ولم يقتلوا وكان اعتداؤهم على المال ما يعادل نصاب السرقة فأكثر، فحينئذٍ تقطع يد المحارب ورجله من خلاف، وهذا صريح آية المائدة.
وإذا قطعت يده ورجله من خلاف فإن القطع للموضعين يكون في ساعة واحدة، ولا يؤخر قطع الرجل عن قطع اليد، وتقطع يده اليمنى مع رجله اليسرى، وهذا هو ظاهر القرآن: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة:33].
فتقطع يده اليمنى بناءً على أنهم يرون أنه سرق، واشترطوا أن يكون قد أخذ ما يعادل نصاب السرقة، والتي تخالف اليد اليمنى هي الرجل اليسرى، ومن هنا تقطع اليد مع الرجل من المفصل في اليد والرجل وتحسم بالزيت المغلي بالنار، لأجل قطع النزيف، وقد تقدم معنا الحسم في حد السرقة.
وبناءً على هذا لا يرى المصنف رحمه الله أنهم إذا اعتدوا على الأموال أن يقتلوا، وهذا هو القول الذي اختاره الحنفية رحمهم الله فهم يوافقون الحنابلة في أنه إذا اعتدى المحاربون على الأموال فيشترط أن تكون الأموال قد بلغت نصاب السرقة، ويشترطون حرمة المال، إلى غير ذلك مما يشترط في اعتبار المال المسروق، فإذا اختل الشرط لم تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وعند غير الحنابلة حتى عند بعض أصحاب الإمام أحمد رحمه الله اختار أنه لا يشترط النصاب، والدليل على ذلك: أولاً: أن الآية الكريمة لم تنص على اشتراط النصاب ولم يأت في السنة ما يدل على اشتراط النصاب.
وثانياً: أن القطع في الحرابة غير القطع في السرقة، فالقطع في الحرابة جاء بطريقة مخالفة للسرقة من جهة الزيادة؛ إذ لم يتقيد بقطع السرقة الذي هو قطع اليد، ومن هنا لا نشترط فيها ما يشترط في السرقة؛ بل نقول: إن للشرع مقصوداً في هذا، ونزيد على ذلك أنه لو رأى الإمام أن من المصلحة قتلهم بالاعتداء على الأموال قتلهم بذلك.
مثال ذلك: لو أن عصابة من قطاع الطريق هجموا على محلات تجارية فأتلفوا وأفسدوا ما فيها، ولم يأخذوا معهم شيئاً يعادل نصاب السرقة، فإنا نقول بتعزيزهم لأجل السلاح حين أشهروه، وإن كانوا في السبل أخافوا السبيل، وخرجوا على جماعة المسلمين بهذا السلاح، وجاءوا علانية وجهرة لا خفية كطريق السرقة، فإذا قلنا باشتراط النصاب حينئذٍ لا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
ولكن إذا لم نشترط النصاب ونظرنا إلى الأصل الذي ذكرناه أن الحرابة فيها خروج وتمرد وتحدٍ للمسلمين في دمائهم وأعراضهم وأموالهم؛ حينئذٍ لا نشترط أن يكون الذين اعتدوا عليه من المال قد بلغ نصاب السرقة، ولا نشترط أيضاً أخذهم لهذا المال، وبناءً على ما قرره المصنف يشترط فيه الأخذ، ولكن على ما نختاره لو أنهم لم يأخذوا بل أتلفوا، وأكثر ما يفعله أهل الفساد والطيش أنهم يتلفون أموال الناس ويعتدون عليها، فيأتون إلى المحلات التجارية وهي أسواق المسلمين فيها أرزاقهم ومصالحهم، ومملوكة لمسلم له حرمة، وله ذمة الإسلام، ثم يأتي عياناً بياناً ويشهر السلاح، ثم يتلف هذا المال أمام الناس من غير أن يأكله أو يشربه وإنما يفتح العلب ويهريقها على الأرض، ثم يتلف الأشياء الموجودة من الأطعمة، فمثل هؤلاء لا يردعهم أن يقال بتعزيرهم.
قد يرى الإمام أن هذه عصابات قد تستشري، هذا يعلم هذا، وهذا يجر هذا، ولا يقطع دابرها بشيء مثل أن ينظر للأصلح والأوفق للمجتمع، فإن رأى أنه اعتداء معتبر على المال نظر هل يكفي قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأن ذلك يردع الناس، ووجد له أثراً فيكتفي به، لكن إذا وجد أنهم متمردون عصاة، وأنهم يجرئون غيرهم، وأنها لا تنحسم مادة شرهم إلا باستئصالهم من المجتمع، فإذاً: لا يتقيد الأمر بالنصاب ولا بالأخذ، لأن الإتلاف اعتداء، بل إن الإتلاف أسوأ من الأخذ؛ لأن الذي يأخذ الطعام يأكله ويرتفق به فهو يراعي حرمة الطعام؛ لأنه يريده لنفسه ويرتفق به حتى لو أخذه وباعه، لكن أن يأخذ المال، أو الطعام الذي جعله الله عز وجل طعمة لخلقه فيرمي به في الأرض، ويتلفه دون أن ينتفع به الإنسان، فهذا من أبلغ ما يكون جناية وجرماً.
وفي حكم هذا لو أنهم أخذوا السفينة ونهبوا ما فيها صدق عليها أنهم أخذوا، وانطبق الشرط الذي ذكره المصنف، لكن لو أنهم أغرقوا السفينة بما فيها من طعام وأرزاق، ولم يأخذوا شيئاً فهذا يكون له حكم الحرابة، ويوجب الحد الذي ذكرناه، وجعل الأمر والنظر للإمام أبلغ، وهو إن شاء الله أقرب إلى الصواب؛ لأن مقصود الشرع حسم مادة الشر، وإيقاف البلاء عن المجتمع، وعدم فتح باب الفتنة على المسلمين بالجرأة على دمائهم وأموالهم ونحو ذلك.
وقوله: [قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى]: هذا هو القطع يكون من خلاف، وبعض العلماء يفصل بين أن تكون يده هي التي يعمل بها، فمثلاً: لو أن أكثر عمله ومصالحه باليسرى قطعت اليسرى مع الرجل اليمنى؛ لكن المحفوظ عن الجماهير أنها تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى.
وقوله: [في مقام واحد] وهذا من أبلغ ما يكون عقوبة وزجراً، ولو أن قاطع طريق قطعت يده ورجله بحكم الله، لكان ذلك من أبلغ ما يكون في ردعه وردع غيره أن يسلك سبيله، فلن تسول له نفسه يوماً من الأيام أن يخرج على المسلمين ويشهر سلاحه من أجل أن يعتدي على أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم، إذ كلما حدثته نفسه رفع كفه التي قطعت، وجاء يقف من أجل أن يذهب أو يروح وإذا برجله المقطوعة تذكره، ما الذي سيكون له؟ وما الذي سيجنيه من فعله وتمرده على المسلمين في مصالحهم ومرافقهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54] فهي آيات بينات {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة:50] أي: لا أحد أحسن من الله حكماً ولا أتم شرعاً {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].