قال رحمه الله: [ولا يقطع إلا بشهادة عدلين].
هذا الشرط معتبر لثبوت حد السرقة، فالسرقة جريمة من الجرائم لا يثبت فيها القطع إلا ببينة ودليل، والدليل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: شهادة الإنسان على نفسه، وهو حجة الإقرار، فيقر ويعترف أنه سرق، ولذلك جاء السارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر واعترف، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يده.
القسم الثاني: أن يشهد الشهود على أنه سرق، فإذا ثبتت هذه الشهادة بالصفة المعتبرة في القضاء الإسلامي حكمنا بقطع اليد.
إذاً: هناك دليلان: الأول: البينة، وهي: الشهود.
الثاني: الإقرار، وهو: شهادة الإنسان على نفسه بالجرم.
ويشترط في الشهود أن يكونوا عدولاً ذكوراً بالغين عاقلين، سالمين من التهمة، ولا تقبل شهادة الصبيان، ولا تقبل شهادة المجانين، ولا تقبل شهادة خفيف الضبط وكثير النسيان وكثير الوهم؛ لأن الله يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، ومثل هذا لا ترضى شهادته.
ولا تقبل الشهادة من ذي خصومة، فلو أن عدواً شهد على عدوه أنه سرق لا نقطع يده، فمثلاً: وقعت خصومة بين أشخاص، ثم فوجئنا بهؤلاء الأشخاص الذين هم طرف في الخصومة والعداوة جاءوا شهوداً على أعدائهم أو على شخص من أعدائهم أنه سرق؛ فلا تقطع يده لأنهم متهمون في هذه الشهادة.
ومن هنا ثبت الحديث عند الحاكم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين)، والظنين: هو المتهم.
قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] في قراءة: ظنين أي: بمتهم، فإذا كان الذي شهد على خصمه عدماً لم نقبل شهادته.
كذلك يشترط في الشهود: أن يبينوا شهادتهم على وجه تنتفي به الريبة، فيبينوا المال المسروق، ويبينوا أن السرقة وقعت من حرز، ويبينوا الشخص المسروق، ويقولون: هذا.
ويشيرون إليه في مجلس القضاء أو يذكرونه باسمه ويرفعون نسبه على وجه يتميز به عن غيره، واشترط بعض العلماء أن يبينوا أنهم رءوه يسرق من مال فلان، فيحددونه ويبينونه.
كذلك أيضاً يشترط في الشهود: توافق شهادتهم، فلا يكون هناك اختلاف في الشهادة، فلو شهد شخص أنه سرق بالليل، والآخر شهد أنه سرق بالنهار؛ لم تقطع يده حتى تكمل شهادة الليل أو شهادة النهار؛ لأن سرقة الليل غير سرقة النهار.
أو شهد أحدهما أنه سرق ذهباً والآخر شهد أنه سرق فضة؛ لم تقطع يده؛ لأن سرقة الذهب غير سرقة الفضة، ما لم يكن المسروق ذهباً وفضة، أو شهد أحدهم أنه سرق إبلاً والثاني قال: سرق غنماً، هذه شهادة وهذه شهادة، هذه سرقة وهذه سرقة، فلابد من اتحاد مضمون الشهادتين وألا تتناقض الشهادتان، حتى يكون بينهما اتفاق على وجه تستطيع أن تعتبرهما بينة واحدة.
ولذلك قالوا: لو قال أحدهما: سرق ثوباً من نوع كذا.
وقال الآخر: بل سرقه من نوع كذا.
أي: نوع غير النوع الأول، لم تقبل شهادتهما، وهذا مذهب الجمهور خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه قال: ربما يخطئ الشاهد في هذا ويغتفر.
ويشترط في الشهود: العدد، فتقبل شهادة الاثنين، وأقل من الاثنين لا تقبل في السرقة، فإذا شهد واحد وحلف المدعي للحق أن فلاناً سرق منه؛ ثبت المال ولم يثبت القطع، بمعنى: لو قال الشاهد: فلان سرق من فلان عشرة آلاف ريال، وليس هناك شاهد آخر، فالقاضي يقول للمدعي: احلف يميناً، فإذا حلف اليمين ثبت المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الشاهد مع اليمين في الأموال، فنوجب على الشخص المشهود عليه أن يضمن العشرة آلاف، لكن لا نقطع يده؛ لأنه لم تكمل بينة القطع.
كذلك يشترط في الشهود: الذكورة، فلا تقبل شهادة النساء، فالشريعة لم تقبل شهادة النساء في الجنايات لما في النساء من ضعف في خلقتهن، ولذلك المرأة لو وقفت أمام جريمة لا تتحمل، ولذلك تجدها تصرخ وتغمض عينيها وتنفعل، وهذا الانفعال يخرجها عن التركيز، والإنسان لا يستطيع أن يغير في خلقة الله عز وجل، ولا أن يحمل المخلوق الضعيف مالا يتحمل، فهذه خلقة الله عز وجل، ومن هنا فشهادتهن قاصرة في الحدود كالسرقة والقتل وفي الجنايات على الأطراف والأعضاء، وهذه الأمور تحتاج إلى قوة من الشاهد حتى يستطيع أن يستبين، ويحتاج إلى نفس صابرة أثناء الجناية، فتستطيع أن تصبر حتى تستوعب الجريمة كاملة، وتستطيع أن تدلي بشهادة بينة واضحة، ومن هنا اشترط فيهم الذكورة والعدد والعدالة، فلا تقبل شهادة الفساق؛ لأن الله عز وجل قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، فأمرنا بالتبين من خبر الفاسق؛ فدل على أن الفاسق لا يقبل مباشرة، وهذا يدل على سقوط شهادة الفاسق، والعدل هو: الذي يجتنب الكبائر، ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم: العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر وذو أنوثة وعدل والحجا وذو قرابة خلاف الشهداء هذه كلها من شروط الشهادة، فيجب توافر هذه الصفات حتى نحكم باعتبار الشهادة على السرقة، ولذلك لا تقبل شهادة الشهود مجملة، فلو قال الشاهد: هذا سرق مالاً.
لا نقبل شهادته ما لم يبين، ولا تقبل متناقضة، بل لابد فيها من الاتفاق بين الشاهدين، وإذا اختلف المضمون في بعض الصفات -مثل: اللون- فقال أحدها: سرق ثوباً أبيض، وقال الآخر: سرق ثوباً أصفر؛ فبعض العلماء يتسامح فيه إذا تقاربت الألوان.