قال رحمه الله: [وتعتبر قيمتها وقت إخراجها من الحرز].
أو عرض قيمته -أي: قيمة النصاب- وقت إخراجها من الحرز، مثل ما ذكرنا في الأطعمة والأكسية، لو أنه مثلاً: جاء إلى مستودع فيه حديد وسرق قطع حديد، أو جاء إلى قطع غيار وهي في حرزها محفوظة وكسر أقفالها ودخل إلى الحرز فأخرج حديداً قيمته تعادل النصاب فأكثر؛ فإذا وقع الأمر على هذا الوجه فهو سرقة؛ لأنه عادل النصاب.
لكن
Q هل العبرة في قيمة النصاب أثناء أخذ المسروق أم العبرة بعد إخراجه من الحرز؟ بعض العلماء يقول: العبرة بوقت الأخذ، وبعضهم يقول: العبرة بوقت خروجه من الحرز.
قلنا: إنه يشترط أن تكون القيمة وقت الخروج؛ لأن السرقة لا تتحقق إلا بالإخراج، فلو أنه كسر القفل وأراد أن يخرج المال من الصندوق ولم يخرجه فليس بسارق؛ لأنه لم يأخذ، وكذلك لو أنه دخل إلى مستودع الحديد أو مستودع قطع الغيار، أو المكتبة، أو دخل إلى محل القماش، فهذا شروع في الجريمة، والشروع في الجريمة لا يعتبر جريمة، يعني: لا يأخذ حكم الجريمة كلها؛ لأن الله جعل لكل شيء قدره، فمن عمل مقدمات الزنا ولم يزن فليس بآخذ حكم الزاني، ومن هنا: شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الجرائم التي لها عقوبات لمعرفة الفعل، حتى أنه سأل ماعزاً رضي الله عنه، وشدد عليه حتى يتحقق أن الجريمة وقعت، وأن هناك فرقاً بين الشروع في الجريمة وبين الجريمة نفسها، فالرجل حينما اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصاب من المرأة دون الحد، فهذا شروع في الجريمة، ولكنه لم يصل إلى الجريمة نفسها، فمن دخل إلى محل فيه قطع غيار، أو دخل إلى محل فيه المال فكسر أغلاقه، ولكنه لم يخرج؛ فليس بسارق، فإذا أخرج المسروق فقد وقع فعل السرقة، حينئذ إذا أخرج وتمت صورة الإخراج المعتبرة شرعاً؛ نظرنا في قيمة المخرج، وهنا يرد السؤال عن النصاب: هل الذي أخرجه يعادل النصاب أو لا يعادله؟ فائدة المسألة: أنه لو دخل وكسر الأغلاق ووصل إلى داخل الحرز، ولكنه لم يخرج المال من الحرز فليس بسارق كما سيأتينا، فلو كانت قيمة المال الذي أخذه أثناء أخذه تعادل ربع دينار، ولكنه لما أخرجه نقصت قيمته عن ربع الدينار؛ فليس بسارق، أي: أنه لم يبلغ نصاب السرقة؛ لأن العبرة بوقت الإخراج، وليس العبرة بوقت الشروع في الجريمة، أو فعل الجريمة نفسها، ومن هنا اشترط العلماء: أن تكون القيمة وقت الإخراج.
ويترتب على هذا: ما لو أفسد المال قبل إخراجه، فلو أنه جاء -مثلاً- يريد أن يسرق وعاءً من الزجاج نفيساً غالياً، وكسر الأغلاق ودخل، ثم أراد أن يحمل الوعاء فسقط من يده فانكسر، ولكنه لم يخرجه من حرز، فحينئذ لم تتحقق السرقة، ويعتبر جناية إتلاف، وفيها الضمان، فلو أخذ أجزاء هذا المكسور، وكانت أجزاء المكسور تعادل ربع الدينار فهي سرقة، ولو أخذ أجزاء المكسور وهي لا تعادل ربع الدينار فليست بسرقة؛ لأنها دون النصاب، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا أخذ -أي: من الثمر- بعد أن يؤويه الجرين ما قيمته ثمن المجن قطع) فقال: (أخذ) فاشترط عليه الصلاة والسلام الأخذ، وقال: (ما قيمته ثمن المجن) فجعله عدلاً بالنصاب، ومن هنا نعتبر قيمة النصاب وقت الإخراج، ومن هنا: لو أنه أراد أن يسرق شاة، وهذه الشاة قيمتها ربع دينار، ثم دخل إلى زريبة الغنم وأمسك بالشاة، ثم ذبحها حتى لا تصيح وتفضحه، فلما ذبحها أخرجها وهي مذبوحة نظرنا: فإذا كانت بعد الذبح تعادل ربع الدينار؛ فحينئذ ثبتت السرقة، وإذا كانت بعد الذبح ينقصها الذبح عن ربع الدينار، وعن ثلاثة دراهم فليست بسرقة؛ لأنه لم يأخذ مالاً معادلاً للنصاب.
إذاً: العبرة عند العلماء -كما اختاره المصنف رحمه الله- بقيمة النصاب وقت الإخراج، ولو أنه في الساعة الثانية كسر الأغلاق، وفي الساعة الثالثة جمع المسروقات وخرج بها، فعند خروجه في الساعة الثالثة كان قيمة هذه الأشياء المسروقة لا تعادل النصاب سقط الحد مع أنه وقت الكسر للأقفال، ووقت الشروع في الجريمة كانت تعادل النصاب.
هنا مسألة ذكرها بعض العلماء: يقولون: لو أنه دخل وأتلف الشيء، مثل: أن يبلعه، لو أنه مثلاً: أخذ ذهباً وبلعه حتى لا يعرف أنه سرقه، ثم خرج به، فهل هو سارق؟
صلى الله عليه وسلم نعم، يعتبر سارقاً؛ لأنه إذا بلعه فقد حفظه في جوفه كما لو حفظه في جيبه، فالجوف مثل الجيب، وهذه حيلة لبعضهم أثناء السرقة: أنهم يبلعون بعض الأشياء المسروقة، ثم يأخذونها -أكرمكم الله- إذا خرجت من الجسم، وبعض العلماء يقول: لا، هذه شبهة: إذا بلعه فليس بسارق؛ لأنه لم يأخذه محمولاً، وهذا ضعيف؛ لأن الحمل بالجوف كالحمل باليد، ولا شك أنه إذا خرجت فضلات الجسم خرج هذا الشيء، وبعد ذلك يتحقق أنه سرق، فالذين يقولون: إنه لا يعتبر سارقاً، يقولون: لا يعتبر سارقاً إلا إذا أخرجه، فإذا أخرجه فإنه سارق، وإذا لم يخرجه فليس بسارق، لماذا؟ قالوا: لأنه إذا وضعه في جوفه ولم يخرجه احتمال أنه يموت قبل أن يخرجه، وحينئذ لا تتحقق السرقة، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يشترط أن ينتفع به، وإنما يشترط فقط أن يتسبب في إخراجه من الحرز، كما لو أنه أخذ المال، ورماه من فوق الجدار، ثم تأخر بالخروج، وجاء سارق آخر وأخذه، ففي هذه الحالة يعتبر سارقاً؛ لأن السرقة تتحقق بالإخراج، سواءً هو الذي انتفع، أو انتفع غيره، فالجريمة وقعت، ومن هنا يقال: العبرة بوجود الأخذ، والعبرة في القيمة بوقت الإخراج، لا بوقت الأخذ.
قال رحمه الله: [فلو ذبح فيه كبشاً، أو شق فيه ثوباً، فنقصت قيمته عن نصاب، ثم أخرجه، أو تلف فيه المال؛ لم يقطع].
فلو ذبح فيه كبشاً، في داخل الزريبة قبل أن يخرجه من الحرز، وكانت قيمة الكبش مذبوحاً أقل من قيمة النصاب، وقيمته حياً تعادل قيمة النصاب سقط الحد؛ لأنه لما خرج أخرج مالاً دون النصاب.
وقوله: (أو شق ثوباً)، جاء إلى فستان يريد أن يسرقه، وهذا الفستان تعادل قيمته قيمة النصاب إذا كان مفصلاً، ولكنه لو قطع فإنه لا يعادل قيمة النصاب، فجاء يريد أخذ الفستان فشاء الله عز وجل أن ينشق الفستان أو أنه فسد بأي طريقة، سواءً نزعه أو أراد أن يحفظه فانشق، أو هو شقه بالقصد، فكل هذه الأحوال مادام أنه حصل الإتلاف الذي ينقص القيمة عن النصاب فإنه يؤثر.
وقوله: (فنقصت قيمته عن نصاب)، يعني: أثناء الخروج.
وقوله: (ثم أخرجه، أو تلف فيه المال لم يقطع)، أقول: لا تستعجبوا من الأمثلة! لأنه لا بد أن نأتي بأمثلة نطبق عليها قواعد العلماء -رحمهم الله- ومن هنا يظهر الفقه، فلو سرق شخص طبق بيض، وطبق البيض قيمته تعادل النصاب، فلما أراد أن يخرج سقط البيض من يده على الأرض وتلف قبل أن يخرج، فحينئذ لا قطع، ولو أنه أخذ خلاً في إناء من زجاج، والخل هذا قيمته ربع دينار فأكثر، أو ثلاثة دراهم فأكثر، ثم جاء يحمله فانزلق من يده فانكسر، فحينئذ تلف الخل، وتلف البيض، فهذا التلف يذهب القيمة، فلا حد ولا قطع؛ لأنه لم يسرق، والشروع في الجريمة لا يوجب ثبوت الحد كما ذكرنا.