Q إذا رأيت في الشارع رجلاً من الجيران سكران وهذا معتاد منه والعياذ بالله- هل أستره أم أبلغ عنه؟
صلى الله عليه وسلم الأصل يقتضي ستر المسلم في الذنوب، وأجمع العلماء رحمهم الله أن الستر أفضل، وأعظم أجراً لصاحبه، وأن من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة.
والستر في جميع الأمور ما لم يكن شيئاً يتعدى ضرره كالمخدرات وترويجها، فشخص يروج المخدرات إذا سترته فكأنما تستر ناراً تحرق عباد الله وأولياءه، وهذا لا يمكن أن يجوز.
ومن هنا يستثنى ما تعدى ضرره، ومثّلوا للمرأة القوادة -التي تعين على نشر الفاحشة والعياذ بالله وتفسد المجتمع- فهذه لا تستر إذا كان شرها يتعدى إلى الغير ويستشري.
فمن كان يدعو إلى الفساد وإلى جرمه فهذا يستثنى.
أما لو فعل المعصية في حق نفسه وذاته فالإجماع منعقد على أن الأفضل ستره، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم لهذا فقال لـ هزال: (هلا سترته بثوبك).
وإذا كان الشخص مبتلى بشرب الخمر فأنصحك أن تنصحه، وأن تكرر النصيحة له، وأن تهيئ له الأسباب فلا تبقى على مجرد الكلام، فإن وجدته يقع في الخمر بسبب قرناء السوء فاحرص رحمك الله على أن تهيئ له قرناء صالحين، وإذا وجدت أنه يقع في شرب الخمر بسبب الفقر وشدة الهموم عليه، فهو يحس أنها تنسيه همومه، فاحرص في تفريج كربته وقضاء ديونه، واحرص على أن تقف معه موقف الأخ مع أخيه، فتنظر إلى نفسيته وأحواله من أين يؤتى، وهذا هو العلاج.
ولذلك الرجل الصالح والعالم الفاضل حينما جاءه الرجل الذي قتل مائة نفس وقال له: هل لي من توبة؟ قال: وما الذي يمنعك من التوبة؟! ثم قال له: إن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون فاذهب إلى هذه القرية، يعني: قرية الصالحين، وهذا الحديث أصل عند العلماء في توجيه الناس، وعلاج المدمن والمستمر في المعاصي، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم نبهنا بفقه هذا العالم الجليل الفاهم الواعي الذي عرف كيف يؤثر في هذا الرجل حتى أنقذه الله من النار بسببه، وهذا كله بفضل الله عز وجل.
أنقذ من النار قبل أن تقبض روحه مع الأشرار فيكون من الهالكين، وهذا بفضل الله ثم بالرجوع إلى العلماء، وأهل البصيرة، فإنه نظر إلى حال الشخص، وفعلاً كانت هذه النظرة علاجاً له، فإنه ارتحل من قومه إلى قوم صالحين، فأدركته المنية، فصارت هذه الوصية علاجاً له ونجاة له في الدنيا والآخرة.
كذلك ينبغي عليك أن تنظر من أين يؤتى الرجل؟ ما من معصية إلا ولها ثغرة، فإن أحسنت علاج هذه الثغرة وسدها عن أخيك المسلم سد الله عنك ثغرات الفتن، والجزاء من جنس العمل.
ولذلك تجد الدعاة والأخيار الصادقين الذين يحرصون على سد الفتن عن الناس في عصمة من الله عز وجل أكثر من غيرهم، وفي حفظ من الله أكثر من غيرهم، فأنت إذا حرصت على أن تسد أبواب الفتن عنه ومن أين يؤتى، وتعلم من الذي يجره إلى الخمر، فكأس الخمر ما شربت إلا بقرين سوء زين شربها، أو سوء ظن بالله عز وجل، أو سوء ظن بالناس، أو نحو ذلك من الأمور.
كم من أناس فيهم من الخير الشيء الكثير وقتل هذا الخير فيهم بسبب ظروف معينة وأحوال معينة! كم من أناس فيهم شجاعة وخير وكرم وفيهم إحسان وأخلاق حميدة فمروا بوطأة ظروف قاسية أليمة، وما وجدوا أحداً يقف معهم، وما وجدوا أحداً يناصرهم ويؤازرهم، فتألمت نفوسهم حتى تسلط الشيطان عليهم! فإذا وجدوا من ينتشلهم بعد الله عز وجل من هذا الحضيض، ومن سوء الظن؛ فإن الله سبحانه وتعالى يلطف بهم.
ولذلك ينبغي عليك أن تعلم من أين يؤتى هذا الجار، نعم تستره، وتحاول قدر المستطاع أن تستره، وأن تذكره بالله عز وجل، وأن تنصحه حتى يهدي الله قلبه، وحاول الدعاء له.
ونذكر من العلماء والصالحين من كان حريصاً على هداية أمثال هؤلاء حتى أصلح الله أحوالهم، وكان حريصاً على سترهم، فهذا الوالد رحمه الله ابتلي بجار مبتلى بشرب الخمر، فوجدنا منه موقفاً عجيباً في ستره، ودخل عليه شارب الخمر يوماً من الأيام في ظلمة الليل، بعد منتصف الليل، وفي ليلة شديدة البرد، وإذا به تفوح منه الخمر، ولما دخل البيت كان الوالد حديث العهد بالوالدة، ما كان الوالد يعرف الخمر ولا يعرف رائحتها ويحسب أنه متضمخ بطيب، ما يدري حياته كلها جهل بهذه الأمور، نسأل الله أن يزيدنا بها جهلاً، ولا يضر.
فالشاهد أنه أدخل الرجل فصار الرجل يبكي، ويقول له: زوجتي وزوجتي! ويصيح مثل الطفل، وهو رجل فيه قوة وعافية، ولما تحدث مع الوالد صار يصيح، وأخذ الوالد، يهدئه ويظن أن الرجل صاح، ما يعلم أنه مبتلى بالخمر، وأن هذا الذي يقوله ويفعله ليس بحقيقة، وأنه بسبب الخمر، فصار يتلعثم في كلامه.
والحقيقة سبحان الله! الوالدة كانت فطنة؛ لأنها فوجئت بقوة الضرب للباب، ثم فوجئت بسقوطه؛ لأنه لما دخل من الباب سقط وانكب على وجهه، وفوجئت بعد ذلك برائحة البيت النتنة، وبالصراخ والعويل، والوقت وقت ليل، وفوجئت بكلام مخلط، فنادت الوالد رحمه الله وقالت له: هذا الرجل تعرفه؟ قال: نعم أعرفه، قالت: مجنون؟! قال: لا، هو صاحٍ ما فيه إلا العافية، من أصحى الناس -وهو فعلاً رجل قوي وشديد في صحته وعافيته- قالت له: انتبه! إما أنه مجنون وإما شرب بلاء، فانتبه من الرجل! وقالت له: اختبر الرجل هل هو صاح أو لا؟ فلما اختبره وجده لا يفرق بين السماء والأرض، فانطبق عليه شرط السكر بإجماع الفقهاء، لا يفهم الخطاب، ولا يحسن الجواب.
والوالد في الحقيقة كان في بعض المواطن شديداً تأخذه الحدة، وإذا بطش في ذات الله لا يبالي، أدركت الوالدة هذا فنادت الوالد وقالت: أسألك بالله ألا تتعرض له، واصرفه بالتي هي أحسن؛ والوالد شق عليه أن يدخل عليه في بيته في هذه الساعة وكان سيهم به ولكن الله لطف، وللوالد رحمه الله أحوال من الستر في قصص نعرفها ستر فيها رحمه الله، ودعا الغير إلى الستر، لكنه خشي أن يتسلط لحرمة العلم أو كان يريد أن يتخذ شيئاً، وقبل أن يصنع شيئاً سألته بالله أن يستره، وهذا في ميزان حسناتها؛ لأنه كان في ساعة من سورة الغضب، وكان يريد أن يبطش به، فستره واستدعى أحد قرابته فأخذه ومضى به -وهذا الكلام قبل أربعين أو خمسين سنة- فجاء الرجل بعد أسبوع، وبكى عند الوالد، وعاهده بالله عز وجل ألا يعود إلى الخمر، من شدة هذا الموقف عنده، وستر الوالد عليه ودعاه أن يعاهده بالله ألا يعود إلى شرب الخمر، واستقام أمر الرجل على أحسن ما يكون.
ومن فضل الله عز وجل أن الإنسان إذا عامل الناس بحسن نية، ووفق في معاملته أن الله سبحانه وتعالى يضع البركة في معاملته، كم من أناس -والله- ينتظرون من ينتشلهم من الضلالات! وكم من أناس من شباب الأمة في أحوال لو رأيتهم يكاد الإنسان يسب ويشتم لكن يعلم الله أن في قلوبهم خيراً كثيراً! ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً شرب الخمر، فقال رجل: (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله) يشرب الخمر ويشهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله، ولذلك قال الله عز وجل: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11].
وقد ترى الرجل لحيته إلى نصف صدره يسب العلماء والدعاة وينتقص، ويتتبع عثرات الناس ويؤذيهم، وهو مظلم القلب حسود حقود، لم ينفعه ظاهر التزامه بشيء.
وتجد الرجل في حال أو شكل ليس فيه تلك اللحية الطويلة، ولا ذلك الثوب القصير، وتجده من أبر الناس بوالديه، ومن أعف الناس لساناً، ومن أحفظهم للصلوات، ومن أحفظهم لإكرام الضيف والشيمة والوفاء والمواقف الحميدة، فـ {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11].
بعض الناس بمجرد أن يرى عاصياً يريد أن يبلغ عنه ويؤذيه! الهدف هو الإصلاح، حتى السجون والعقوبة المراد بها الإصلاح، فينبغي أن ندرك هذا، فالشريعة ما تريد الإيذاء بقدر ما تريد من الإصلاح، فينبغي أن يرد العبد إلى الله، ويرد إلى رشده وصوابه.
فليس العلاج مقتصراً على الجوانب الشكلية، بل المراد العلاج الجوهري: {و َقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، قولاً يبلغ إلى المقصد، ويصل إلى الهدف، وهذا لن يكون إلا لأناس ملأ الله قلوبهم بالرحمة؛ لأن الله يقول لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فلما كان رحيماً بالأمة، قال الله له: {و َقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] لا يقول القول البليغ قاسي القلب، لا يقول القول البليغ إلا من كان رحيماً رقيقاً رفيقاً بالناس، يدخل على المجرم فيتذكر أولاده وأسرته، ويحب أن يستر عباد الله كما يحب أن يستر في أهله وعرضه، ويحب الخير للمسلمين كما يحبه لنفسه.
وليس معنى هذا أن يعين أهل الفساد على فسادهم، إنما المراد أن توزن الأمور بالميزان الذي جمع العقل والنقل، ولذلك قال العلماء: من رزقه الله عقلاً يميز به بين الأمور، ورزقه نور العلم والبصيرة؛ سلمت أحواله، وأصاب الرشد والسداد في رأيه، نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل! استر جارك، وذكره بالله، وخذ بناصيته إلى طاعة الله ومحبته، جارك وصّاك الله به من فوق سبع سماوات: (وما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
فنوصيك بجارك خيراً، واحرص -بارك الله فيك- على هدايته ودلالته وستره، وتذكيره بالله، نسأل الله العظيم أن يكتب صلاحه وصلاح كل مفسد على يديك، وعلى يد كل داعية إلى الله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.