أما الذين قالوا بالجواز فقالوا: إننا نحتج بعدة أدلة: الدليل الأول: من الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] قالوا: إنه إذا وجد الداء، أو المرض ولا يمكن علاجه إلا بالخمر فنحن مضطرون إلى الخمر، مدفوعون إليها بغير اختيار، ومأمورون أن نعالج أبداننا، كما في حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه وأرضاه: أن الأعراب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هاهنا، وهاهنا، وقالوا: (يارسول الله! أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله!) قالوا: نحن مأمورون بعلاج البدن، فإذا كنا مأمورين بعلاج البدن، وثبت أنه ما يوجد إلا هذا العلاج والدواء -وهو الخمر- فإننا مضطرون إليه، ومدفوعون إليه بغير اختيار، والله يقول: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي: بين لكم ما حرم، ثم قال: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فنحن حينما اضطررنا إلى هذه الخمر انتقلت من كونها حراماً إلى كونها حلالاً.
الدليل الثاني: من السنة، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أناس من عكل أو عرينة، فاجتووا المدينة -أي: أصابهم الجوى وهو: نوع من المرض الذي يصيب البدن لاختلاف الطعام، واختلاف البيئة- فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحّوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل) الحديث.
وجه الدلالة من هذا الحديث: إن أبوال الإبل نجسة على مذهبهم، فهم يرون أن أبوال الإبل نجسة، كما هو مذهب الشافعية وطائفة، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يشربوا الأبوال النجسة لوجود الضرورة وهي: العلاج، فمن هنا: يجوز شرب الخمر النجسة للضرورة والعلاج، كما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتداوي بأبوال الإبل؛ لأنها كانت علاج الداء والمرض، فيجوز شرب الخمر ولو كانت نجسة محرمة.
كذلك أيضاً استدلوا بالعقل، فقالوا: يجوز شرب الخمر دواءً كما يجوز أكل الميتة عند الاضطرار؛ بجامع وجود الحاجة في كلٍ، قالوا: أليست الميتة حراماً؟ قلنا: بلى.
قالوا: لو أن إنساناً اضطر إليها ألا يأكلها؟ قلنا: بلى.
قالوا: فالخمر حرام شربها، فإذا اضطر إليها جاز له شربها كما جاز للمضطر أن يأكل الميتة بجامع وجود الضرورة، والحاجة في كلٍ منهما.
هذا بالنسبة للأدلة التي ذكروها لجواز شرب الخمر للتداوي، والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بتحريم التداوي بالخمور والمسكرات، والمخدرات أيضاً في حكمها، وذلك لما يأتي: أولاً: لصحة دلالة العقل والنقل على ماذكره أصحاب هذا القول.
ثانياً: لا يصح استدلالهم بقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، ونقول: إن دعواكم وجود الضرورة إلى الخمر مردودة؛ لأن الأطباء لم يثبتوا كونها دواءً، وجاء الشرع أيضاً مثبتاً لهذه الحقيقة، ونقول: أنت تقول: إنك مضطر إلى الخمر لأنها دواء، لكن لا نسلم لك أن الخمر دواء، فأنت تضطر إلى شيء ليس بدواء! فإذا كان ليس بدواء فلست بمضطر؛ لأن الذي ألجأك واضطرك كونها دواءً، وقد ثبت بالشرع والدليل الصحيح الذي لا يمكن أن يكذبه أحد أنها داء، وليست بدواء، فكيف تقول إنك مضطر إليها؟! إنما تكون مضطراً إذا كان فيها دواء، ولكن الواقع أنه ليس فيها دواء، وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأطباء أكدوا هذا في العصر الحديث أنه ليس فيها علاج للأسقام والعلل، بل تزيد الجسد سقماً وبلاءً وضرراً إلى ما يعانيه ويجده.
إذاً: استدلالهم بقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} غير مسلم، ولا يشمل هذه الحالة؛ لأن الشرع نفى الضرورة فيها.
ثالثاً: استدلالهم بحديث العرنيين، الجواب عنه من وجهين: الوجه الأول: نقول: يحتمل أن هذا قبل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لم يجعل شفاء أمته فيما حرم عليها، لأنك ما تستطيع أن تجعل حديث العرنيين متأخراً عن هذا الحديث؛ ليكون أشبه بالناسخ، والقاعدة: أن الأخبار لا يدخلها النسخ، فهي أخبار متعلقة بالأمر الواقع: (إن الله لم يجعل)، فلا يصح أن يقول: الله جعل، وما يمكن هذا! هذا تناقض ولغو ينزه عنه الشرع، لكن على تسليم ما ذكروه، نقول: حديث العرنيين يحتمل أنه سبق حديث تحريم الخمر، وكانت رخصة أن يتداووا بهذه الأشياء، ثم سلبت المنافع من المحرمات والنجاسات، والخمر منها، وبقيت حراماً وداءً إلى يوم القيامة.
الوجه الثاني وهو أقوى: نقول: لا نسلم أن بول الإبل نجس؛ وذلك أن بول الإبل ثبت ما يدل على طهارته؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على بعيره، وطاف على بعيره صلوات الله وسلامه عليه، ولو كان بوله نجساً لما لامس النجاسة عليه الصلاة والسلام، ولما صلى على الموضع النجس، فعن ابن عمر في الصحيحين: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على بعيره إلا المكتوبة) فلو كان نجساً لم يصل عليه عليه الصلاة والسلام، والأشبه أن بول البعير وروثه طاهر، وسنقرر إن شاء الله في كتاب الأطعمة أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ويؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الصلاة في مرابض الغنم، ولم يجزها في معاطن الإبل، وعلل ذلك بالشياطين، ولم يعلله بالنجاسة، وهذا يؤكد أنها طاهرة، وليست بنجسة.
إذا ثبت هذا؛ فإنه يسقط استدلالهم بالآية والحديث، ويبقى قولهم: إنه يجوز شرب الخمر كما يجوز أكل الميتة عند الضرورة، نقول لهم: إن أكل الميتة عند الضرورة حينما تصيب الإنسان المخمصة، معناه أنه سيموت، فلو لم يأكل الميتة فإنه سيموت قطعاً، فيباح له أكل الميتة، أرأيتم لو أكل إنسان جائع مشرف على الموت من الشاة الميتة ألا يحفظه ذلك بإذن الله من الموت؟ قطعاً إنه سيكون سالماً من الضرر، ومن الموت والهلاك، وهل المصلحة في أكل الميتة عند الضرورة مشكوك فيها أو مقطوع بها؟ مقطوع بها، فإذا أكل من الميتة عند الضرورة نجا، ويشهد الحس بأنه ينجو، ومن هنا فرق العلماء بين ترك التداوي وبين ترك الميتة، قالوا: لأنه إذا ترك التداوي ترك شيئاً يحتمل أن ينجح فيصيب الداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فإذا أصاب الدواء الداء برئ بإذن الله)، فيحتمل أن يصيب الداء، ويحتمل ألا يصيبه، فنقول: التداوي محتمل، ولكنه وجدت أدلة على أنه يصيب في غالب الأمر، والواقع هنا أنه شهد الحس، وشهد الأطباء، وشهد أهل الخبرة، أن الخمر لا يصيب الداء، وإنما يزيد الداء والبلاء، ومن هنا نقول: فرق بين الأمرين: فالأمر الأول: يحقق مصلحة، ويدرأ مفسدة أعظم، والأمر الثاني: يحقق مفسدة، ويحدث مفسدة أعظم، وعلى هذا نقول: لا يستقيم الاستدلال من هذه الوجوه، والذي يترجح: أنه لا يتداوى بالخمور، ولا يتداوى بالمخدرات؛ لأن الأدلة دلت على عدم جواز ذلك.