واستدل أصحاب القول الأول بما ثبت في الحديث الصحيح عن وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه: أن طارق بن سويد الجعفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها -كما في رواية مسلم - فقال: (يا رسول الله! إني أصنعها للدواء -يعني أصنعها دواءً وعلاجاً- فقال صلى الله عليه وسلم: إنها ليست بدواء، ولكنها داء) وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الخمر ليست بدواء، وهذا خبر مبني على الوحي الذي لا يمكن أن يأتيه الخطأ، وحكم عليه الصلاة والسلام بالوحي من السماء أنها داء، وأنه لا دواء فيها ولا علاج.
ومن هنا: فدعواهم أنها دواء ليست بمسلمة، هذا الدليل الأول.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها فرأى الجرة، وإذا بالخمر تفور منها حتى خرجت منها، فقال: (ما هذا؟! فقالت: يا رسول الله! إن فلانة تشتكي بطنها، وقد نقعت لها) -يعني: نبذت لها النبيذ- من أجل أن أعالجها بهذه الخمرة.
(فضرب عليه الصلاة والسلام الجرة برجله حتى انكسرت) -أي: حتى انسكب منها الخمر- ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاءً) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة في شيء حرمه عليها، والخمر مما حرم الله، وهذا الحديث نص في المسألة؛ لأنه لا يمكن أن يكون منه عليه الصلاة والسلام ذلك إلا وقد أطلعه الله عز وجل على أنه لا خير في الخمر، ولا دواء ولا علاج، فأكد هذا معنى الحديث الأول، والحديث رواه: أبو داود، وأحمد في مسنده، وكذلك رواه أبو يعلى في مسنده أيضاً، قالوا: هذا كله يؤكد أن الخمر داء، وليست بدواء.
الدليل الثالث من النقل: استدلوا بالأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقد ذكره الإمام البخاري تعليقاً في صحيحه، ووصله ابن أبي شيبة في مصنفه بسند حسن، وقال الحافظ ابن حجر: إنه على شرط الشيخين، وفيه: (إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها) قالوا: إنه أكد الأثر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود من أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أئمة الفتوى، فبين أن الله عز وجل لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.
وهذا الأثر الصحيح موقوف لفظاً مرفوع حكماً؛ لأنه يقول: (إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها) فمثل هذا لا يقال بالرأي، حيث يجزم ويخبر عن الله أنه لم يجعل الشفاء فيما حرم، فهو: موقوف لفظاً، مرفوع حكماً، قالوا: إن هذا يؤكد ما ورد في السنة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يجعل شفاء ... ) خبر عن الله عز وجل أنه رفع الدواء عن الخمر، ولم يجعل شفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم في المحرمات، ووجه الدلالة من النص تارة فيكون أعم بحيث يشمل موضع النزاع، يكون موضع النزاع سبباً في ورود النص فيشمله ويشمل غيره، فحديث: (إنها ليست بدواء، ولكنها داء) خاص بالخمر، فهو خاص بمسألتنا، لكن هذا الحديث الثاني مع الأثر يدل على أن الله عز وجل لم يجعل لهذه الأمة شفاءً فيما حرم؛ فهو أعم، ويشمل مسألة النزاع-وهي التداوي بالخمر- ومسألة التداوي بأي محرم كان، وأنه لا شفاء في المحرمات، مثل: التداوي بالسموم والنجاسات، وكل هذا يكون الأصل فيه التحريم والمنع لهذا النص، وبين أن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة في هذه الأمور المحرمة التي ثبت النص بتحريمها.
كذلك أكدوا دليل النقل بدليل العقل، فقالوا: أولاً: إن تحريم الخمر قطعي؛ لأنه ثبت بنص في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا احتمال فيه، وكون الخمر دواءً ظني موهوم مشكوك فيه، يعني: يتوهمون أنها دواء مع أن السنة تنفي هذا، فيقولون: هو ظني متوهم، بل لو قلت: ما هو موجود أصلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليست بدواء)؛ لصح الكلام، لكن نقول: إنه متوهم، نعطيه ولو (1%) تنزلاً مع الخصم! وليس إثباتاً للحكم؛ لأننا نصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نصدق غيره ممن يخالفه، فلو قلنا: إنه موجود على ما ذكروه فهو وهم، وهذا أضعف درجات العلم، والقاعدة أنه: (لا يجوز ترك القطع لوهم وشك) لأنه يجب البقاء على اليقين، وعلى القطع.
ثانياً: أن الخمر فيها مفاسد، ويترتب على استعمالها ضرر عظيم، فوجدنا أن ضرر الخمر أعظم من ضرر الداء الموجود؛ لأنها لا تقتصر على الإضرار بالبطن والأجهزة المتعلقة بالهضم، بل إنها تضر أجهزة الهضم والقلب، وتضر أجهزة الأعصاب، فضررها جسدي وروحي، فلو جئت إلى الضرر الموجود في الداء وحده، وعادلته بالضرر المترتب على تعاطي الخمور لوجدت أن الضرر المترتب على تعاطي الخمور أعظم من الضرر الموجود في بعض الأمراض، والقاعدة الشرعية أنه إذا تعارضت مفسدتان إحداهما أعظم من الأخرى فإننا لا نرتكب الكبرى، ويجب الصبر على الصغرى دفعاً لضرر الكبرى، ولا يجوز استباح المفسدة الكبرى، دفعاً للمفسدة الصغرى.
فنحن نقول: إن الأطباء اتفقوا على أضرار الخمور والمسكرات، وأن لها تبعات على الجسد وعلى الروح، سواء التي يعالج بها للبطن أو التي يعالج بها لبعض الآفات، فنجد أن المضاعفات المترتبة على شرب الخمور أعظم من هذا الداء الذي يُعالج، فنتنزل معهم كمسلك جدل، فنقول: هب أن فيها دواء وعلاجاً فرضاً مع أننا لا نقول بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الدواء ليس بموجود فيها، ولكن هذا يسمى بالتنزل مع الخصم، فلو فرضنا وسلمنا-جدلاً- أن ما قاله صحيح، فنقول: الداء والضرر المترتب على استعمالها أعظم من الداء الذي يعالج، والقاعدة: أنه يرتكب أخف الضررين، وأنه إذا تعارض الشران وجب ارتكاب الأخف دفعاً للأعظم، ومن هنا نقول بتحريم التداوي بها دفعاً لما هو أعظم، ولا نجيز ذلك حتى لا يقع الأكبر من المفاسد.
لماذا يذكر العلماء أدلة العقل مع النقل؟ قد نبهنا على هذا، فإن بعض الإخوة يستشكل هذا ويقول: لسنا بحاجة إلى الأدلة العقلية مع النقلية! -الواقع أن الأدلة العقلية يذكرها العلماء- لأنه ربما كان اختلاف في ثبوت الدليل النقلي فيُحتاج إلى الدليل العقلي.
كذلك ربما جادلك من لا يؤمن بالشرع-والعياذ بالله- ولا يقبل دليل الكتاب والسنة، فأنت إذا تحصنت بالأدلة العقلية كان هذا أبلغ في دمغه، ورد كذبه أو زيفه، وكشف عواره؛ لأنه يكون عندك شيء يسلم به، فتقول له: إن هذا كما دل عليه النقل، كذلك دل عليه العقل، فهم يذكرون مثل هذه الحجج تأكيداً كما ذكرنا، وإلا فالأصل من لم يستغن بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلا أغناه الله، ومن لم يحتج بهما فلا خير فيه.
ذكر بعض العلماء دليلاً ثالثاً عقلياً أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، وكان من أعلم الناس بالطب، فقال: (إن النفوس لا ينفع الدواء فيها إلا إذا أحبته وقبلته، وارتاحت إليه) يعني: الدواء ما يعظم أثره ولا وقعه على المريض إلا إذا كان هناك استجابة، وهذا أمر مقرر عند الأطباء، فالارتياح للدواء، والاعتقاد أنه قد وضعه الله عز وجل علاجاً لهذا الداء يساعد كثيراً على استجابة البدن، وحصول المصالح، واندراء المفاسد، والواقع في الخمر: أن نفوس المسلمين مشمئزة منها، كارهة لها، وأنتم تشترطون - يا أصحاب القول الثاني- أن يكون في قرارة قلبه كارهاً لها، فمعنى هذا: أنه ليس هناك استجابة وتوافق من المريض مع العلاج.
وهذا من أجمل ما ذكره رحمه الله في الزاد، زأكد به ما بيناه من القول بالتحريم.