التسبب في إسقاط الحمل وضمانه

يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً ضمنه المؤدب] بين المصنف رحمه الله في هذه المسألة: أنه لو أدب رجل امرأة حاملاً فأسقطت جنينها فإنه يضمن الجنين، والسبب في ذلك: أن الضرر متعدٍ، والتأديب متعلق بالحامل، والجنين لا ذنب له، ولذلك وجب ضمانه، ولأن الحامل أمرها على الخطر، ولذلك كان يجب عليه أن يتحفظ وأن يتقي ما يوجب الضرر، ومن هنا حكم بوجوب الضمان عليه؛ لأنه لا يخلو الأمر من إفراط في التأديب وخروج عن الأصل، فنقول: إن الضمان لازم، ولا يسقط التأديب حق الجنين وضمانه؛ لأن الضرر هنا متعدٍ، وبينا أن التأديب متعلق بالمرأة نفسها وبالمؤدب، فالمصلحة للمؤدب نفسه، وأما الجنين فلا ذنب له ولا علاقة له، فلذلك بقي على الأصل من وجوب ضمانه، وعليه: فلا تتعارض هذه المسألة مع مسألة ما إذا أدب الأب ولده فمات، أو أتلف عضواً من أعضائه، أو أدب المعلم تلميذه ولم يفرط في التأديب -كما تقدم معنا- فحصل الضرر، فإنه يسقط الضمان.

وقد يستشكل طالب العلم كيف قلنا: إن المؤدب لا يضمن، وهنا لو أدب امرأة حاملاً فأسقطت جنينها ضمن؟ ف

صلى الله عليه وسلم أن المسائل المتقدمة معنا تعلق الضمان بالأصول التي هي محل المصلحة من جهة التأديب، فالولد إذا أدب هو الأصل المنتفع بالتأديب، وقد أذن الشرع بتأديبه، وأما هنا فإن الضمان للفرع وليس للأصل، وقد أمر الله بتأديب الأصل وأحل تأديب الأصل، ولكن الفرع لا ذنب له، ولذلك وجب ضمانه، وهذا من دقة الشريعة الإسلامية، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فالجنين لا ذنب له، ولذلك يجب ضمانه، وفيه حق لورثته، فيجب ضمان هذا الحق لصاحبه.

قال رحمه الله: [وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق لله تعالى، أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له فأسقطت ضمنه السلطان والمستعدي].

قوله: (وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق لله تعالى) ذكر مسألة ضمان الجنين من المؤدب، وألحق هذه المسألة تبعاً، هي ليست أساساً في الباب، ولكن من باب ذكر النظائر والمسائل في مظانها.

صورة المسألة: أن تكون هناك امرأة لزم حضورها إلى مجلس القضاء أو إلى مجلس الحكم، وطلبت من أجل أن يكشف حق الله عز وجل عندها، فارتعبت وأصابها الذعر فأسقطت جنينها، فإن هذا الإسقاط ترتب عليه ضرر متعلق بالجنين، والجنين لا ذنب له كما ذكرنا، نعم المرأة تطلب تطلب، ولكن الجنين لا ذنب له، فنسأل: كيف سقط هذا الجنين وبأي سبب؟ فوجدنا أن الطلب والأمر بإحضارها أحدث الرعب الذي نشأ عنه إسقاط الجنين، فيكون قتلاً بالسببية -كما تقدم معنا في صور القتل بالمباشرة والسببية- فيجب الضمان، وهذا أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله أنه يجب الضمان للجنين، وأنه لا يسقط خلافاً لما اختير من القول بعدم الضمان، والصحيح أنه يضمن.

قال: [أو استعدى عليها رجل بالشُرَط في دعوى له].

الشُرَط: جمع شرطي؛ لأن الشرطي يحدث الرعب والخوف، ولذلك إذا استعدى عليها -يعني: اشتكاها- وجاءها بالشرط ووقف على بابها فإن هذا يحدث عندها الرعب والخوف، ومن هنا فعله هذا تسبب في سقوط الجنين وحصول الضرر لطرف لا ذنب له، وله دعوى على المرأة نفسها.

قوله: (استعدى) يعني: طلب؛ إما أن يقيم عليها دعوى ثم يطلبها، أو يشتكيها إلى الشرط ثم يبعث معه الشرطي فيقف على بابها فيحدث لها هذا الخوف والرعب ويأمرها بالنزول، سواء كان ذلك بصورة الخوف؛ مثل أن يتكلم بكلام يحدث عندها الخوف والرعب، فارتعبت المرأة وخافت فأسقطت جنينها، فإن هذا الإسقاط جاء بسبب الخوف، والذي تسبب في الخوف وتعاطى أسبابه هو هذا المستعدي؛ لأنه لولا الله ثم استعداؤه ما حصل هذا كله، ولذلك يتحمل مسئولية فعله.

قال: [فأسقطت، ضمنه السلطان والمستعدي].

ضمنه السلطان في الصورة الأولى إذا طلبها للحضور، والسلطان يشمل القاضي، وهذا أكثر ما يقع من الصور، أنه في مجلس القضاء تكون هناك دعاوى مثلاً: لو أن قاضياً أراد أن يطلب امرأة لحق من حقوق الله عز وجل فطلبها، لحق من حقوق الله فاسقطت فإنه يضمن، وعليه فلو طلبها ظلماً فمن باب أولى وأحرى، وهذا من باب التنبيه بالأدنى لكي ينبه على ما هو أعلى منه وأولى بالحكم منه، فبين رحمه الله أن القتل بالسببية في هذه الصور لا يكون قتلاً من كل وجه، الجنين إذا نزل فاستهل صارخاً ثم مات بفعل السقوط والإسقاط لا شك أن الضمان يكون كاملاً، لكن سيأتي أن فيه الغرة إذا كان ميتاً، أو أسقطته ميتاً.

فالشاهد من هذا: أن السلطان يضمن، والمستعدي يضمن، لكن الإشكال في السلطان والقاضي، هل يكون الضمان في ماله أو في بيت مال المسلمين؟ من أهل العلم من قال: إنه إذا طلبها من أجل جريمة أو من أجل حق يتعلق بالمصلحة العامة، فإن عنده مبرراً شرعياً، وهذا المبرر متعلق بمصلحة المسلمين العامة، ولذلك يجب ضمان هذا التلف الحاصل من بيت مال المسلمين؛ لأنه مأمور شرعاً أن يطلبها، وعند السلطان عذر أن يستدعيها، فقالوا: في هذه الحالة يكون الضمان من بيت مال المسلمين، هذا أصل في القضاة والحكام؛ أنهم إذا تصرفوا بما فيه المصلحة العامة، وكان على وفق الحدود الواردة شرعاً، ولم يخرجوا عنها، فإنه يكون الضمان من بيت مال المسلمين بما يشاء من الضرر؛ لأنهم قصدوا مصلحة المسلمين العامة، وسواء فيما يتعلق بشجارات الأفراد أو خصومات الأفراد إذا قصد بها المصلحة العامة وطلب القاضي هذه المرأة من أجل هذه المصلحة، وفي كشف حق الله عز وجل في قضية أو أمر لابد من حضورها، فإنه حينئذٍ يجب ضمان هذا الضرر المترتب على هذا الفعل الذي يقصد به المصلحة العامة من بيت مال المسلمين، ولا يكون من مال السلطان الخاص، لكن لو أنه أسرف وتجاوز أو كان فيه ظلم ضمن من ماله الخاص، هذا الفرق بين الصورتين، والصحيح أنه يضمن من بيت مال المسلمين.

أما المستعدي: فلا إشكال أنه يجب ضمانه من ماله الخاص؛ لأن الأصل في الضمان أن يكون على هذا الوجه بالنسبة له.

قال: [ولو ماتت فزعاً لم يضمنا].

إذا مات الجنين ضمن المستعدي وضمن السلطان، لكن لو أن المرأة نفسها ماتت من شدة الخوف فللعلماء فيه وجهان: منهم من قال: لا ضمان، لا على السلطان ولا على المستعدي، فلو أن السلطان استدعى امرأة، فمن شدة الخوف سقطت ميتة، أو جاء رجل واشتكى امرأة ومن شدة الخوف سقطت وماتت، أو اشتكى رجلاً معروفاً بالخوف، وليس الخوف خوف ذلة ومهانة، وإنما الخوف الطبيعي الجبلي، الذي وقع لأنبياء الله عز وجل، قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ} [طه:67 - 68]، فالخوف فيه جبلة للإنسان، فإنه يخاف من الشيء الذي فيه ضرر، وقد يكون حيياً، وقد يكون عزيز النفس، فبمجرد أن يستدعى لمثل هذه الأمور تضيق نفسه وتتألم ويتعب، وقد يموت قهراً، يعني: ليس فيه ذلة أو خوف أو جبن، وإنما قد يكون هذا لعوارض أخرى، وقد تجد مثلاً الرجل في علمه وخطابته وقوة بأسه ربما لو قام شخص يناقشه يضيق من الغيظ فلا يستطيع أن يجيبه، لكن ليس هذا دليلاً على خوفه وجبنه، فقد يكون من القهر، ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من قهر الرجال، وقال موسى عن نفسه: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء:13]، فقد تكون الحوابس عوارض ذاتية في النفس، فالناس يختلفون في طبائعهم.

فالمقصود من هذا: أنها لو استدعيت إلى مجلس القضاء وماتت فزعاً، أو خرجت من بيتها فماتت فزعاً، أو حبس على بيته فامتنع من الخروج حتى مات فزعاً، في هذه الحالة اختلف العلماء: قال بعض العلماء: يجب ضمانه، وهذا هو الصحيح، والمصنف اختار عدم الضمان، والمذهب على أنه يضمن السلطان ويضمن المستعدي؛ لأنه لا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة التي قبل، لكن الذين قالوا: إنه لا يضمن، قالوا: لأنه طلبه لحق الله عز وجل، وهذا أشبه بالمؤدب إذا أدب، والواقع أن هناك فرقاً بين التأديب وبين الطلب؛ لأنه بالطلب لم يثبت الحق بعد، ولم يجب تأديبه بعد، ولم يثبت السبب الموجب للإسقاط، لكن إذا أدب المعلم فإنه لا يؤدب إلا بعد الخلل، فوجد الخلل المقتضي للتأديب، أما هنا فقد استدعى، ومن المعروف أن الخصم إذا استدعي أول شيء يطلب، ثم بعد ذلك يناقش ويثبت عليه الحكم، وبعد ثبوت الحكم يؤدب، فنحن لم نثبت عليه جريمة بعد، وحينئذٍ لا وجه لتعميم الحكم بالإسقاط، لكن لو أنه كان مجرماً وطلبه السلطان من أجل إقامة حق الله عليه فمات فزعاً يصح قول المصنف أنه لا يضمن، ولذلك الأوجه والأشبه في هذه المسألة أن تستثنى منها ثبوت الحق في مجلس القضاء؛ لأن هذا مبني على مسألة الحكم على الغائب، وستأتينا في القضاء، فإذا حكم عليه غيابياً، وثبت الحكم عليه غيابياً، وطلب بعد ثبوت الحكم عليه، فقد طلب لحق الله عز وجل.

لكن في أكثر الصور من حيث الأصل أنه يطلب المدعى عليه، ثم بعد ذلك يجيب عن دعواه، فيقر أو ينكر، ثم بعد ذلك تجري القضايا على السنن الشرعي، وحينئذٍ لا نستطيع أن نقول: إنه في كل مسألة يسقط الحق، ولا نستطيع أن نقول في كل مسألة: يسقط الضمان، ولا نستطيع أن نقول في كل مسألة: يجب الضمان، فيفصل على حسب ثبوت الحق عليه، بحيث يكون الاستعداء والطلب صحيحاً شرعاً، وبين أن يكون غير ثابت عليه ما ادعي، فحينئذٍ يكون الأشبه ضماناً كما هو المذهب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015