بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: وإذا أدب الرجل ولده، أو سلطان رعيته، أو معلم صبيه ولم يسرف لم يضمن ما تلف به].
يقول المصنف رحمه الله: (فصل) هنا سيبين المصنف رحمه الله الأحوال التي تسقط فيها الدية لأسباب خاصة، ومن ذلك: تأديب الوالد لولده، وتأديب السلطان لرعيته، والأصل في التأديب أنه يراد به المصلحة أو يراد به درء المفسدة العظمى في ارتكاب المفسدة الصغرى.
فالأصل في الوالد مع ولده أنه لا يريد أن يضره، وهكذا المعلم مع طلابه؛ لأنه يريد الخير، والظاهر من حاله والأصل فيه أنه لا يريد الجناية والأذية، فلذلك يحمل على هذا المحمل الحسن فلا نحكم بلزوم الدية فيما يترتب على التأديب؛ لأن الإذن بالشيء يفقد الضمان في تبعته، لكن هذه القاعدة فيها تفصيل واستثناءات، والشرع أذن للوالد أن يؤدب ولده، وأذن للسلطان أن يؤدب رعيته، وأذن للمعلم أن يؤدب من يعلمه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) فشرع الضرب في التعليم، والدعوة للخير، والأصل: أن العلم يراد به الدعوة للخير؛ يتعلم الإنسان ثم يعمل.
فهذا الإذن الشرعي بالتأديب والتعليم، وأيضاً صيانة الناس والرعية، كل هذا إذا كان الأصل يقتضي جوازه فإن ما يترتب عليه من ضرر مغتفرٌ شرعاً؛ لأن الأصل أن من فعل هذه الأفعال يقصد بها مصلحة المجني عليه، ولذلك لا يجب عليه ضمان.
مما السبب في أنه لا يجب عليه ضمان؟ لأننا لو أوجبنا الضمان في مثل هذا لامتنع التعليم، وامتنع الوالد من تربية ولده، وامتنع السلطان من تأديب الرعية؛ لأنه كلما جاء يؤدب خاف أن يترتب على الأدب ضرر فأحجم، وكلما جاء الوالد يريد أن يؤدب ولده وعلم أنه إذا أصاب ولده ضرر أنه مسئول أمام الله وأنه آثم، وأنه يتحمل الضمان أحجم وامتنع، وهذا يؤدي إلى ضررٍ أعظم وحينئذ اغتفر هذا الضرر بالنسبة للولد لمصلحته.
ثم الأمر الثاني: أن الغالب السلامة في هذا والنادر حصول الضرر، ولذلك الحكم للغالب والنادر لا حكم له.
يدخل في هذا تأديب الزوج لزوجته؛ لأن الله شرع تأديب الزوجة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واضربوهن ضرباً غير مبرح)، فالزوج له الحق أن يؤدب زوجته ولا يعنف ولا يقبح ولا يضرب الوجه، فإذا أدبها وحصل ضرر فالأصل أنه يريد الخير لها ولا يحمل على المحمل السيء.
هذا بالنسبة لقضية القواسم المشتركة في هذه الصور؛ في الوالد مع ولده، والمعلم مع صبيته -الصبية الذين يتعلمون تحت يده- والسلطان مع رعيته، والزوج مع زوجته؛ فكل هؤلاء هدفهم الخير، والغالب فيهم أنهم يريدون مصلحة المُعْلَّمْ ومن يريدون تأديبه، ولذلك لا يجب عليهم الضمان.
قال رحمه الله: [وإذا أدب الرجل ولده].
الذكر والأنثى، أولاً: يجب على الوالد أن يقوم على مصالح أولاده فيأمرهم بما أمر الله به وينهاهم عما نهى الله عنه، وهذا من الوقاية لهم من نار الله وغضبه، وكل والد أدب ولده التأديب الشرعي فقد سعى في فكاك نفسه من نار الله عز وجل، وكل والد أدب ولده وأقام الحجة عليه؛ فإنه يكون قد سعى في فكاك ولده من نار الله عز وجل، ولذلك إذا قام الوالد بحق التأديب والتعليم على الوجه المعتبر أعظم الله أجره وعظم مثوبته، كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عال جاريتين فأدبهما فأحسن تأديبهما، ورباهما فأحسن تربيتهما، إلا كانتا له حجاباً من النار يوم القيامة)، فهذا يدل على أن التأديب والتعليم مقصود شرعاً.
هذه الرسالة -رسالة التعليم والتربية- تحتاج إلى قوة، ولذلك لابد من وجود القوة في بعض الأحوال، فمن الأولاد من ينكف بالزجر، ومنهم من لا ينكف إلا بالضرب، والأحوال تختلف، ومن هنا كان من حق الوالد أن يزجر أولاده ذكوراً كانوا أو إناثاً عن الأمور التي لا تجوز بالتوجيه إن نفع التوجيه، ثم إذا لم ينفع فإنه يضرب ولا بأس في ذلك، وهذا الضرب فيه مصلحة، ولذلك كان من الحكمة استخدامه، وكما قال القائل: قسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم والأب إذا ضرب ولده وتألم الولد فإن هذا الألم صلاح لدينه ودنياه، كما أن الطبيب يؤلم المريض، فهذا الألم من ورائه خير ومصلحة متى ما كان واقعاً في موقعه، ولذلك اتفق الحكماء والعقلاء: على أن أكمل ما يكون في التربية ألا يكون الضرب والإيجاع والألم العامل الأول في الحفز على الخير والمنع من الشر؛ لأن الأولاد إذا أصبحوا لا يرتدعون عن المحرمات إلا بالضرب، ولا يفعلون الخير إلا بالضرب تعطلت مداركهم، وأصبحوا تحت سلطان الرغبة والرهبة، وحينئذ يغلب عليهم الهوى، فإن غابت القوة وغاب الوالد رتع الأولاد كيف شاءوا.
وهذا معلوم ومشاهد -نسأل الله السلامة والعافية- في النفوس التي تتربى على القهر، فإنها متى ما زال عنها القهر طاشت وخرجت وفلتت لنفسها الزمام -والعياذ بالله- فرتعت في حدود الله ومحارمه دون هوادة.
بل إن من الآباء من يحفظ ولده القرآن ويربيه على أكمل ما تكون التربية لكنها بعنف وقسوة وضرر وأذية، فما إن يموت الوالد أو يغيب عن ولده إلا ويضيع ذلك الولد -نسأل الله السلامة والعافية- وكأنه لم يتعلم شيئاً من الخير، بل لربما رجع حاقداً على كل خير وبر، وهذا يدل على ما ذكرنا من اتفاق الحكماء والعقلاء: على أن البداء بالضرب يبلد الإحساس ويقتل معاني النفوس السامية التي تحفز إلى الفضائل واجتناب الرذائل، فلابد من ترسيخ القناعة الذاتية، وتحريك المدارك في الصبيان وفي الأولاد ذكوراً كانوا أو إناثاً حتى إذا بلغوا استطاعوا بأنفسهم أن يحكموا على الأشياء، فما كان من خير قبلوه، وما كان من شر تركوه، وهذا هو الأسلم والأحكم، وهو الذي يجب على الوالد أن يلتزمه.
بناء على ذلك اتفقوا على أنه ينبغي على الوالد أن يبدأ أولاً بالتوجيه، والتوجيه في الكمالات لا يوجب العقوبة، فلا يحفزهم على الكمالات بالقهر؛ لأن الله لم يفرض ذلك على المكلفين فضلاً عن غير المكلفين، ومن هنا يوجه أولاً، ثم يوجه في غير الكمالات التي هي الأمور الواجبة، فيأمرهم بها، والمحرمة ينهاهم عنها، فالتوجيه يشمل الأمر بطاعة الله والنهي عن معصية الله، فإذا كان التوجيه لم يجد فيه أذناً صاغية انتقل إلى مرحلة التحذير، وينذره ويقول له: إن لم تستجب فسأعاقبك إن لم تستجب فسأفعل بك، وهذا من أفضل ما يكون، فيجعل له مدة في الإنذار بالعقوبة، ويعوده على أنه ينذره مرة أو مرتين، ثم الثالثة إذا أنذره فعل به ما وعده، فلا يتأخر؛ لأنه إذا وعده أنه يضربه أو يؤدبه وفعل الصبي خلاف ما أمر أو ترك خلاف ما أمره به، فإنه إذا تسامح معه اعتادت نفس الصبي ألا تبالي بالإنذار، واعتادت الإهمال، وأصبحت نفساً تستهتر بالنُذر، ولكن إذا عوده على أن ينذره المرة الأولى ثم المرة الثانية، فإن رأى المصلحة أن يصبر إلى الثالثة وإلا بطش به.
الأمر الثالث: إذا أراد أن يبطش به، يبطش به على وجهٍ يحمل على مكارم الأخلاق بفعلها على الأمور المحمودة أن تفعل، والأمور المذمومة أن تترك دون قهر ودون مبالغة في العقوبة؛ لأن المبالغة في العقوبة تؤثر على نفسية الصبيان، والأطفال الصغار ذكوراً كانوا أو إناثاً كما ذكرنا، فلابد أن تكون العقوبة معقولة، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه ولطم الصور -يعني لطم الوجه- وكذلك أيضاً نهى عن الضرب المبرح بالنسبة لتأديب المرأة.
هذا الأصل الشرعي: أنه يعاقب بهذا التدرج، وقد ينتهي به الأمر إلى العقوبة وهي المرحلة الأخيرة، فنحن أحببنا أن ننبه على ذلك؛ لأن البعض بمجرد أن يسمع أن للوالد أن يؤدب ولده يبطش بالولد مباشرة، وإنما المنبغي التفصيل، ولذلك قال الله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، فذكر ثلاث مراتب: الوعظ والتذكير بالله عز وجل ثم الهجر في المضاجع.
والهجر في المضاجع يقابله في الأولاد كف الحسنات عنهم، يعني لو كان من عادته أن يأخذ ولده إلى نزهة في نهاية الأسبوع، ومن عادته أن يذهب به إلى مكان يحبه، ففي ذلك اليوم الذي يترك فيه واجباً أو يفعل فيه محرماً يمتنع من أخذه، وهذا ينبغي أن يكون بأسلوب حساس جداً، يعني بطريقة لا تجعل الولد ينقطع رجاؤه في خيرك ويصبح مبلد الإحساس.
بل عليك أن تكون حكيماً، واعلم علم اليقين أنك مهما أوتيت من عقلٍ وبصيرة فلن تستطيع أن تربي ولن تستطيع أن تعلم ما لم تكن موفقاً من ربك.
فالأمور كلها بيد الله عز وجل، وكما قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] فمن افتقر إلى ربه أغناه وسدده.
فالمقصود أن الوالد إذا أدب ولده فكسر يده، أو رجله، فالأصل أنه لا يريد ذلك، ومن هنا تسقط عنه المؤاخذة ولا يجب عليه الضمان.
كذلك السلطان مع رعيته، لو أن السلطان جيء له برجل فعل جنايةً؛ يعني فعل فعلاً لا يبلغ حد العقوبة المقدرة شرعاً، فمثلاً: لو آذى امرأة أذيةً لم تصل إلى الزنا والاعتداء على عرضها، فنظر السلطان فأراد أن يعزره فأمر مثلاً بجلده أسواطاً، فلما جلد سقط الرجل فانشل، أو سقط الرجل فشلت يده أو رجله، أو أصابه مرض بسبب هذا الضرب، فحينئذ لا ضمان على السلطان، ولذلك جاء عن علي رضي الله عنه -وهو قضاء عمر في القود في الحدود- أنه قال: الحق قتله.
وهذا أصل عند العلماء، لكن المشكلة أن التعزيرات فيها الضمان بخلاف الحدود، وهذه مسألة سنناقشها إن شاء الله أكثر في باب التعزير بإذن الله عز وجل.
بين المصنف رحمه الله أنه لا ضمان على هؤلاء، والعلة في هذا كما ذكرنا: أننا لو ذهبنا نضمنهم لتعطلت المصالح العظمى من التعليم والتربية وردع الناس، ولذلك لا يضمن السلطان إذا أدب رعيته.
لكن كل هذا بشرط أن يكون التأديب لا مجاوزة فيه للحدود، أما لو أن السلطان أمر بجلد رجلٍ بطريقة مضرةٍ مؤلمة فإن حصل الضرر فإنه يضمن، وهكذا