قال رحمه الله: [وأن لا يحملها ما تعجز عنه] أي: لا يحمل البهيمة فوق طاقتها، مثلاً: الركوب على البهيمة مشروع؛ ولذلك امتن الله على عباده بذلك فقال: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] فجعلها ركوباً للإنسان، ولكنه لما أحل لنا ركوبها لم يحل لنا تعذيبها، ولا أن نحملها ما لا تطيق.
فإذا أراد أن يركب البهيمة فينبغي أولاً أن تكون البهيمة مما يعد للركوب، كما في الخبر حينما ركب أحدهم بقرة فقالت: (إن الله لم يخلقني لذلك)، يعني: ما خلقني ظهراً للركوب، وكذلك الشاة ليست محلاً للركوب، لكن الخيل والبغال والحمير والنوق، وهذا الأصل -وهو جواز الركوب- تختص به بهائم.
ثم نفس البهائم تختص بزمان وسِنٍّ تطيق فيه الركوب: فإذا كان من الإبل فأن تكون حقة، وسميت حقة لأنها استحقت أن يركب عليها وأن يطرقها الفحل، كما تقدم في كتاب الزكاة، فإذا بلغت السن الذي يركب عليها ويحمل عليها ركبها وحمل عليها.
ثم أيضاً في الحمل عليها يفصل، فيقال: لا يحملها ما لا تطيق بل بالمعروف، وهذا الأصل الذي هو جواز الحمل على الدواب محل إجماع عند العلماء رحمهم الله، لكن بشرط أن لا يكون فيه تعذيب للحيوان، ويختلف ذلك من حيوان إلى حيوان، فهناك حيوانات تطيق الحمل أكثر فيحملها ما تطيق، وهناك حيوانات لا تطيق إلا القليل فيحملها على قدر طاقتها.
قال رحمه الله: [ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها].
قوله: (ولا يحلب من لبنها) يعني: من لبن البهيمة (ما يضر ولدها)، وهذه المسألة تسمى بمسألة ازدحام الحقوق؛ فالبهيمة فيها حق للمالك وحق للولد.
هذا إذا كانت ولوداً وولدت واحتاج ولدها إلى اللبن فصار له فيه حق، وأيضاً ربها ومالكها يحلبها ليبيع الحليب أو ليشرب، ففي هذه الحالة هل نقدم حق المالك لأن يده يد أصل، أم نقدم حق الولد؟
صلى الله عليه وسلم إذا كان حلبك يضر بالولد لم يجز، والسبب في هذا: أن الولد لا يجد بديلاً والمالك يجد بديلاً، والولد لا يستغني عن حليب أمه والمالك يستغني عن هذا الحليب، وإذا ازدحمت الحقوق نظر إلى الأحق والأحوج، ولذلك نجد في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وقضاء الشريعة أنه ينص على الحق، فإذا كان ولد البهيمة يحتاج إلى هذا اللبن ولابد له منه ولا تستطيع أن تصرفه إلى ناقة ثانية، أو إلى بهيمة ثانية، خاصة الحرائر إذ فيهن شغف وتعلق بالوالدة عجيب، حتى إنه لو ماتت أمه ربما مات بعدها، لأنه لا يُقبِل على ضرع غيرها، وهذا موجود، فكما أن نفوس الآدميين تختلف أصالة وحناناً كذلك نفوس البهائم.
فهذا الولد لو صرف إلى غير أمه ربما يتضرر بذلك، والمالك يمكنه أن يجد بديلاً؛ فقدم الأضيق والأحق، ولأن المالك مستفيد على طيلة زمانه والولد محتاج لزمان مخصوص، فيقدم الخاص الذي حاجته خاصة على ما هو عام يمكنه أن يرتفق في أي زمان غير هذا الزمان المحتاج فيه الولد إلى اللبن.
واستدل العلماء رحمهم الله بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) وهذا الحديث حسَّن بعض العلماء إسناده، لكن متنه صحيح بإجماع العلماء رحمهم الله، وأصول الشريعة كلها دالة على صحة هذا المتن، ومن هنا انبنت القاعدة الشرعية المجمع عليها، والتي تقول: الضرر يزال.
فعندنا ضرر متعلق بهذا الولد لا يمكن إزالته إلا أن يرتضع من أمه، فحينئذٍ يقال بتقديمه من هذا الوجه.