قوله: [ومرض مخوف].
إذا كان الصائم للشهرين المتتابعين مريضاً مرضاً مخوفاً، يخشى لو أنه لو صام لهلك، وقال الأطباء: لا بد أن يفطر؛ فأفطر أياماً، وبعدها رجعت له صحته، فهذه الأيام التي أفطرها لعذر المرض المخوف لا تقطع التتابع، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وتقدم معنا ما هو المرض المخوف، وبينا هذا في أحكام عطية المريض مرض الموت، فإذا قرر الأطباء ذلك وهم الأطباء الذين عندهم خبرة ومعرفة وهم الذين يرجع إليهم في هذا الأمر، وقد بينا أن علماء وفقهاء الإسلام رحمهم الله، يقولون: يسأل كل أهل علمٍ عن علمهم، فإذا كان الأمر يتعلق بالمرض؛ رجعنا إلى الأطباء؛ لأنهم أعلم بأمور الصحة لتعليم الله لهم، فنسألهم: هل هذا المرض مخوف أم لا؟ كأن يكون صام شهراً ثم أصابه مرض، فإذا قال الطبيب: لا بد وأن يفطر، لأنه حدث عنده عجزٌ في كليتيه مثلاً، أو على الأقل يفطر عشرة أيام حتى تعود له صحته، فعادت له صحته بعد العشرة فاستأنف، فهذه العشرة الأيام التي قال الأطباء إنه ينبغي عليه فطرها، لا يضر قطعه الإتيان بها؛ لأنه معذور، وبناءً على ذلك: أصبح العذر الشرعي: هو وجود أمرٍ من الشرع بالفطر مثل أيام العيد، أو أمر من الشرع بالصوم مثل رمضان، أو يكون معذوراً شرعاً بجنون أو مأموراً شرعاً بالفطر لسبب يتعلق به كالمريض.
قوله: [ونحوه].
يعني لمن يعذر؛ فلو كان المرض غير مخوف، بمعنى أن المريض يشق عليه الصوم ولكنه ليس بمرض مخوف، فهل يفطر؟
صلى الله عليه وسلم لا؛ لأن المرض ينقسم إلى ثلاثة أقسام في الصيام: القسم الأول: إذا كان المرض يغلب على الظن أن صاحبه لو صام لمات؛ فهذا يجب عليه أن يفطر، فحينئذٍ تنتقل الرخصة إلى عزيمة؛ لأن الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فهذه النصوص تدل على حرمة تعاطي الأسباب الموجبة لهلاك الأنفس، والله تعالى جعل الشريعة شريعة رحمة، فلو قلنا له: صم، صارت شريعة عذاب، والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، ومعنى (من حرج) إزهاق الأنفس، فإذاً يجب عليه الفطر.
القسم الثاني: أن يكون المرض لا يسري بالإنسان إلى الهلاك إذا صام ذلك اليوم، ولكن يحدث عنده نوع من الحرج، ويمكنه أن يصبر، فحينئذٍ له أن يفطر فيأخذ برخصة الله، وله أن يصوم فيأخذ بالعزيمة، فإن صام فلا بأس، وإن أفطر فلا حرج، فهنا وجهان مشهوران مفرعان على مسألة الفطر في السفر، أقواهما أنه إذا أصابه حرج، فالأفضل أن يفطر، هذا في السفر وإذا كان صومه في رمضان.
أما في الكفارة كما هنا: فإذا كان يستطيع أن يصوم ولو بنوع من العناء؛ فيجب عليه أن يتم ما أوجب الله عز وجل؛ لأن مقصود الشرع أن يؤدبه؛ ولذلك جعل الشهرين متتابعين حتى أن الصحيح القوي في صيامه للشهرين المتتابعين يجد المشقة والعناء، زجراً من الله له عن ارتكاب ما يوجب الكفارة مرةً ثانية، وزجراً من الله عز وجل لعبده عن الوقوع فيما نهاه عنه، وزجره عنه لما حرمه، وإلا كانت الكفارات لا تؤدي ولا تحقق مقصود الشرع.
القسم الثالث: أن يكون مرضاً يسيراً خفيفاً، فهذا مثله لا يعتد به ولا يوجب الرخصة، خلافاً لمن قال من بعض فقهاء الظاهر: إن مطلق المرض يوجب الرخصة.
والحاصل أنه إذا كان يصوم الكفارات التي يجب فيها التتابع وهو مريض؛ فإننا نسأل الأطباء، فإن قالوا: هذا المرض مرضٌ مخوف ولا يمكن معه الصوم، نقول له: أفطر ولا يقطع فطرك التتابع، وإن كان مرضاً يمكن الصبر معه؛ فإنه يبقى على الأصل من إلزامه بإتمام الصيام.