قال المصنف رحمه الله: [ببعض أو بكل من تحرم عليه أبداً] النساء اللاتي يحرمن على الإنسان ينقسمن إلى محرمات على التأبيد ومحرمات على التأقيت، والمحرمات على التأبيد هن المحرمات من النسب والسبب والرضاع، وقد تحرم المرأة على التأبيد لعارض مختص مثل مسألة الملاعنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقع اللعان فرق بينهما فراقاً إلى الأبد، فلا يجتمعان أبداً، ولذلك قال الزهري رحمه الله: مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبداً.
والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله: مالي! قال: إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها).
فالمفارقة بين الملاعن والملاعنة فرقة أبدية، لكن هذا التحريم الأبدي لا يوجب المحرمية.
وأما بالنسبة للمحرمات فهن من جهة النسب والسبب، فأما من جهة النسب فسبع، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وأما من جهة السبب فأربع، وهن أم الزوجة وبنت الزوجة وزوجة الأب وزوجة الابن، والمحرمات من جهة الرضاع هن جهة اللاتي يحرمن من جهة النسب.
فهؤلاء المحرمات تحريمهن مؤبد، وفي الرضاع والنسب جمهور العلماء -ما عدا الظاهرية والشافعية في قول عندهم على تفصيل- متفقون على أن هذا التحريم تحريم مؤبد.
وهؤلاء السبع النسوة المحرمات بالنسب إذا شبه زوجته بواحدة منهن فإنه يقع الظهار، لكن الظاهرية يخصون الظِهار بالأم، والجمهور على أن غير الأم والأم سواء بالنسبة للمحرمات.
فلو ظاهر من زوجته فشبهها بمحرمة من المحرمات من النسب فعند جمهور العلماء لو قال: أنتِ عليّ كبنتي، أو: كأختي، أو: كخالتي، أو: كعمتي، أو: كبنت أخي كبنت أختي فإنها محرمة ظهاراً، هذا من حيث الأصل عندهم.
لكن بالنسبة للمحرمات من جهة السبب فبعض العلماء لا يرى أن تشبيه الزوجة بالمحرمات من جهة السبب يوجب الظهار، فلو قال لها: أنتِ عليّ كزوجة أبي، أو: كزوجة ابني، أو: كحليلة ولدي، أو: كفلانة وهي زوجة أبيه أو زوجة ولده فإنه لا يقع عندهم الظهار.
والصحيح مذهب الجمهور أنه يقع الظِهار بالسبب كما يقع بالنسب.
أما الرضاع فمن العلماء من أطلق وهو مذهب الجمهور، ومنهم من فصل وقسم الرضاع إلى رضاع طارئ ورضاع أصلي، فقالوا: إذا كانت المرأة المحرمة من جهة الرضاع تحريمها منذ ولادته فهذا رضاع موجب للتحريم أصلاً، مثالهُ: لو أن أمه أرضعت امرأة فصارت بنتها من الرضاع، وبعد سنتين أو ثلاث من الرضاع ولدته أمه، فإن هذه الأخت من الرضاع محرم له منذ ولادته، وهذا رضاع أصلي.
أما لو طرأ الرضاع وولد وهي أجنبية، أو ولدت بعد ولادته ثم رضعت من أمه فهذا التحريم من الرضاع ليس في الأصل، فلو شبه بها لا يقتضي التحريم.
والسبب في هذا أن الشافعية رحمهم الله الذين عندهم هذا التفصيل يرون أن النص جاء بالأم، والأم فيها وصف تحريم مؤبد.
ولذلك فرق عندهم بين الشيء الطارئ وبين الشيء المؤبد، والصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن المحرمات من جهة النسب أو السبب أو الرضاع، إذا شبه بهن الزوجة يوجب الظهار.
والدليل على ذلك واضح؛ لأن المرأة حكم بكونها محرمة على الرجل، وشبهها بامرأة محرمة بغض النظر عن كونها من قبل كانت حلالاً له أو في المستقبل على الوجه الثاني الذي سيأتينا إن شاء الله في التحريم المؤقت، فالأصل عندنا أن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، فجعل المسألة قائمة على التحريم، وقائمة على الامتناع من الزوجة، وتنزيلها منزلة من تحرم عليه ولا يحل له نكاحها كل هذا من المنكر ومن قول الزور، وهو موجود في تشبيه الزوجة بالأخت من الرضاعة، أو بالبنت من الرضاعة، أو بالعمة من الرضاعة، وغيرهنَّ من المحرمات اللاتي ذكرن.
وبناءً على ذلك فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أن كل امرأة تحرم بنسب أو سبب أو رضاع تدخل في الظِهار، وأن الأمر ليس فيه التفصيل الذي ذكروه؛ لأن الموجب للتحريم موجود في الكل، فيكون الحكم ووجه الاشتراك بين الأم وغيرها موجود في النسب والسبب والرضاع.
أما المحرمات من جهة التأقيت فكأخت الزوجة، وكعمة الزوجة وخالة الزوجة؛ لأن الله حرم أن نجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وبناءً على ذلك قال بعض العلماء: المحرمة مؤقتاً إذا شبه زوجته بها فلا ظهار، أي: لو أنه قال لها: أنتِ عليّ كأختك قالوا: لا ظهار.
والصحيح والأقوى الذي تطمئن إليه النفس من حيث الأصول أنه ظهار؛ لأن المعنى موجود فيه، فهو يشبهها بها في حال حرمتها عليه، فيقول: أنتِ عليّ كأختك.
وأختها محرمة عليه، أو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أختك.
فهذا كله يعتبر في حكم الظهار.