Q أحب أن أتصدق من مالي كثيراً، ولكن والدي وإخوتي يطلبون مني أن أتاجر بأموالي مما يقلل من نصيبي في الصدقة، فأيهما أفضل؟
صلى الله عليه وسلم دين ودنيا، دنيا وآخرة، أيها أفضل؟ لا شك أنك إذا قصدت من إمساك المال بر الوالد والسمع والطاعة للوالد، ونويت أنه لو لم يأمرك الوالد لتصدقت فإن الله يأجرك بثلاثة أجور: الأجر الأول: أجر البر، وهو أعظم عند الله من الصدقة التي تفعلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن: أحب الأعمال إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين) والوالد إذا أمر بأمر لا يتهم فيه بمعصية وجبت طاعته، وهو قد أمرك؛ لأنه قد يشفق عليك في مصلحة لولدك أو لك، أو يراك تحمل نفسك ما لا تطيق، فحينئذٍ تكون هذه توسعة من الله ساقها لك، وأرجو من الله أن يأجرك بحسن نيتك.
ثانياً: يأجرك الله عز جل على الصدقة بنيتك؛ لأنه لو لم ينهك والدك لتصدقت.
وثالثاً: أن هذا الأمر الذي وقع من منع والدك لك يحدث عندك نوعاً من الضيق؛ لأن الكريم يتألم إذا امتنع عن الصدقة، الكريم الذي قذف الله في قلبه الرحمة حتى ولو كان يبر والديه تجده يتألم، والله يعطيك أجر الألم، هذا أمر ثالث.
فمن نعم الله عز وجل على من أعطاه الله الكرم وأرسل يده بالإحسان، أنه لا يرجع في عطية، وأكره ما عنده أن يرد في عطيته، أو يمنع من الإحسان إلى الناس.
ومن القصص العجيبة عن الملك عبد العزيز رحمه الله برحمته الواسعة، وكان من أكرم الناس، وحدث ذات يوم أنه أعطى عطية وروجع فيها، وكانت عطية كبيرة جداً، وربما أجحفت ببعض المصالح، لكنه روجع فيها رحمه الله، فيحدث بعض الثقات الذين عايشوا هذه القضية أنه بعد أن روجع فيها ورأى المصلحة أن يرجع لم ينم ليلته تلك إلى الفجر، وهو يقول: عبد العزيز يعطي ويرجع في عطيته! عبد العزيز يعطي ويرجع في عطيته! فلما طلع الفجر دعا المسئول وهو ابن سليمان رحمه الله، وقال له: الذي أمرت به من العطية ينفذ، وعندها جاءه النوم رحمه الله.
فالكريم لا يرجع في عطيته، ولا يرضى لنفسه البخل، ولو منع من عطيته فإنه يتألم، حتى إن بعضهم يمرض ولا يطيب له العيش ولا تهنأ له النفس.
يقال عن بعض الكرماء العرب وكرماء السلف رحمهم الله القدماء: إنه كان إذا سافر ومعه خدمه وحشمه لا يمكن أن يأكل لوحده، وكان يضع طعامه على الطريق ويقول: التمسوا لي الضيف.
فلا يرتاح الكريم إلا بالإعطاء.
فيأجرك الله الأجر الثالث بما ذكرناه، وهو كونك تتألم أنك لم تعط الناس، وهذا هو شأن من حبب الله إليه الآخرة.
أخي في الله! بر والدك، وتاجر إذا كانت تجارة مباحة، وانو في قرارة قلبك محبتك لربك وحبك للإحسان لإخوانك المسلمين، وانو في قرارة قلبك أنك تستعين بهذه التجارة لجمع مال لصدقة أعظم، فإن الله عز وجل يبلغك بحسن النية.
ولا شك أن الصدقة من أحب الأعمال إلى الله، وينبغي على كل من يريد أن يكون التزامه صادقاً وطاعته صادقة لله عز وجل أن تكون بينه وبين الله صدقات خفيات يجبر بها قلوب المؤمنين والمؤمنات، ومن كانت له صدقة بينه وبين الله كانت بينه وبين الله وسيلة نافعة شافعة في الدنيا والآخرة، فكم من كربات فرجت بفضل الله ثم بفضل الصدقة، وإن المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته يوم لا ظل إلا ظله جل جلاله، وإن العبد يكف عن وجهه النار بفضل الله ثم بالصدقة.
لو لم يكن في الصدقة إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) لكفى، قالوا: إن الإنسان ربما كان من أعصى الناس لله عز وجل، وربما ينزل الله به بلاءً فيتصدق فيذهب عنه غضب الله، ولربما غفر الله ذنبه بتلك الصدقة، لكن يستدل على ذلك بالتوفيق في الصدقة، ومن أعظم البشائر لولي الله المؤمن بالدرجات العلى في الصدقات: أولاً: أنه إذا جاءه المال، ومكنه الله منه، نظر إلى أن هذا المال لا يغني عنه من الله شيئاً، وأنه لا قيمة لهذا المال إلا إذا اشترى به رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه من بعده، حتى إن عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهي الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تكون صائمة فيأتيها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وأرضاه ثلاثين ألفاً فتتصدق بها، حتى إنها لا تبقي شيئاً تفطر به في ذلك اليوم، وكانت كأبيها والشيء من معدنه لا يستغرب: إن الأصول الطيبات لها فروع زاكية أبوها الذي أنفق ماله كله لله جل وعلا ورسوله، وأنزل الله من فوق سبع سماوات تزكيته أنه مجنب من النار مبرؤ منها: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18] وأعطى ماله لله، حتى إنه لما هاجر أخذ ماله معه نصرة للإسلام ونصرة لله ولدينه عز وجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فجعت أهلك بنفسك، ثم فجعتهم بمالك، ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم حب الله ورسوله) رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه.
بخٍ بخٍ! هذا والله العيش! الصدقة ما سميت صدقة إلا لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها؛ لأنه لا يتصدق بهذه الدنيا لوجه الله ويشتري بها رحمة الله عز وجل إلا من كان مؤمناً صادقاً في إيمانه؛ لأن المال يأسر صاحبه، والمال له سلطان على القلوب، به سفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، وقطعت الأرحام، والله يقول: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] فالمال فتنة، ومع هذا يأتي الإنسان يريد أن يتصدق فتأتيه النفس الأمارة بالسوء وتقول له: تضيع مستقبلك ومستقبل أولادك وأهلك وذريتك! وكذا وكذا، فيعده الشطيان الفقر، وتأتيه رحمة الله جل وعلا، فيثبت الله عز وجل قلبه فيقول: لا، إن خزائن الله لا تنفذ (ويد الله ملأى سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة) إني أعامل الله الذي لا غنى إلا به سبحانه وتعالى، فيخرج هذا المال ولو كان من أعز أمواله صدقة، وهو موقن أن الله سيخلف عليه، وأنه هو الرابح وليس بخاسر.
ولذلك لما جاء عام الرمادة واشتد الأمر على المسلمين في المدينة جاءت عير لـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فخرج التجار يتلقونه، فقالوا: يا عثمان! بعنا التجارة، نربحك الدرهم بالدرهمين؟ قال: أعطيت أكثر، قالوا: نعطيك ثلاثة؟ قال: أعطيت أكثر، قالوا: أربعاً خمساً قال: أعطيت أكثر، قالوا: من ذا الذي أعطاك وما بالمدينة تاجر سوانا؟ قال: إن الله أعطاني بالدرهم عشرة، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، أشهدكم أنها صدقة على فقراء المسلمين! هذا هو الإيمان والثقة الصادقة بالله جل وعلا، أن تكون بما في يد الله أغنى منك بما في يدك، وإن العبد تأتيه زينة الدنيا وزهرتها حتى إذا أراد الله أن يسعده في هذه الدنيا جعل أول ما يفكر فيه أن يقدمه لآخرته.
عمر رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين لما جاءته أرض بخيبر ما دنا منها ولا أجرى ماءً ولا نهراً ولا غرس شجراً، ولكن بمجرد ما فاز بالأرض وأصبحت في ملكيته انطلق إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم لكي يشتري الآخرة، فكانت الدنيا تحت أقدامهم، وكانت الآخرة ملء قلوبهم، فجاء وقال: (يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر هي أنفس مالي، ما أصبت مالاً أحب إليّ من هذا المال، فماذا تأمرني فيها؟) وقد كانوا يحكمونه في أموالهم وأنفسهم رضوان الله عليهم.
فما أخذها مع أنه لو أخذها فهي حلال له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت تصدقت بها وحبّست أصلها وتصدقت بثمرتها) الحديث، فتصدق بها رضي الله عنه وأوقفها على فقراء المسلمين وضعفتهم.
فأول دلائل التوفيق للصدقة الصالحة قوة اليقين بالله عز وجل.
ثانياً: أن يخرج بهذه الصدقة وأحب ما يكون إليه ألا يعلم به أحد، حتى كان السلف الصالح رحمهم الله لا يعرفهم الفقير الذي يعطونه، فيأتي الرجل منهم متنكراً في ظلام الليل وسواده البهيم.
وكان علي زين العابدين رحمه الله برحمته الواسعة يحمل على ظهره الصدقات إلى بيوت الأرامل والأيتام، فكان إذا جنّ عليه الليل حمل على ظهره الطعام، وهو إمام من أئمة المسلمين، وديوان من دواوين العلم والعمل، فكان ينطلق إلى بيوت الضعفاء والفقراء والأيتام والأرامل وهم في جوف الليل، فيقرع عليهم أبوابهم، ثم يعطيهم هذا الطعام، ثم لم يعلم أحد أنه زين العابدين الطيب بن الطيب رضي الله عنه ورحمه برحمته الواسعة وأباه وجده، وهذه سلالة طيبة من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم الطيبون الطاهرون.
فما علم أنه زين العابدين إلا لما توفي، ففقد ستون بيتاً من ضعفاء المسلمين ذلك الرجل الذي يطرق عليهم في جوف الليل أبوابهم، وكان رضي الله عنه يحمل الطعام على ظهره وعنده من العبيد والخدم ما لا يحصى، ولو شاء أن يأمرهم لحملوا، ولما أرادوا أن يغسلوه كشفوا عن ظهره فوجدوه متأثراً من الأكياس التي كان يحملها رحمه الله برحمته الواسعة.
فالذي يشتري رحمة الله عز وجل هو الرابح، الصدقة هي الربح والتجارة مع الله جل وعلا، والله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] من هو السعيد الموفق الذي يضع في دواوين الآخرة صدقاته صادقات من قلبه المؤمن الموقن بربه جل وعلا؟! وأعظم ما تكون الصدقة أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخاف الفقر وتأمل الغنى، أتخاف أن تأتيك هموم المستقبل؟ لا تبالغ، الإسلام وسط، لكن في بعض الأحيان يبالغ الإنسان في تقدير الأمور، حتى إنه يحجم عن الصدقات، فإذا كان الإنسان صحيحاً شحيحاً يخاف الفقر ويأمل الغنى، وتزينت له الدنيا بزينتها، ثم جاءه نداء الله جل وعلا، وتذكر ما عند الله فرفض الدنيا ووضعها تحت قدميه؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ووالله ثم والله