Q من أقام بمكة بعد حجه ثم اعتمر، فهل يطوف الوداع لحجه أم لعمرته، أثابكم الله؟
صلى الله عليه وسلم باسم الله، الحمد الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن طواف الوداع يشرع في الحج، وليس بمشروع في العمرة ولا بواجب، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في الحج ولم يأمر به في العمرة؛ والسبب في ذلك: أنهم كانوا إذا طاف طوافوا الإفاضة في الحج مكثوا أيام التشريق بمنى، ثم يسافرون إلى ديارهم من منى، فصار هذا جفاءً للبيت، والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات، فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً) فهذا يدل على أن طواف الوداع شرع من أجل الحاج، وأما المعتمر فأصح أقوال العلماء: أنه لا يجب عليه طواف الوداع.
والذين قالوا بوجوب طواف الوداع على المعتمر قالوه بالقياس، قالوا: إن العمرة كالحج، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)، وهذا القول ضعيف؛ لأن قوله: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) المراد به مقام التروكات وليس في مقام الأفعال؛ لأن أصل الحديث حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه يعلى بن أمية رضي الله عنه في قصة الرجل المعتمر من الجعرانة: (أنه لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبة عليها طيب، قال: يا رسول الله! ما ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يغط كغطيط البكر صلوات الله وسلامه عليه، فلما سري عنه، قال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) والسياق سباق محكم، فلا يؤتى ويقتطع في الحديث.
فإن قال قائل: العبرة بعموم اللفظ، قلنا: (اصنع بعمرتك ما أنت صانع في حجك) لو أخذت به على عمومه للزم الوقوف بعرفة على المعتمر، ولزمه أن يبيت في مزدلفة، وأن يرمي الجمار؛ لأنه قال: (اصنع) أي: افعل.
فإذا كنت تقول: إنه لا يجب عليه الوقوف بعرفة، ولا يجب عليه المبيت بمزدلفة ولا بمنى، ولا الرمي، فقل: ولا يجب عليه طواف الوداع؛ لأنه واجب من واجبات الحج، فإذا سقط هذا الواجب سقطت تلك الواجبات، وإذا سقطت تلك الواجبات سقط هذا الواجب.
أما أن نقول: هذا الواجب يلزم، وهذا الواجب لا يلزم، فهذا تفريق بدون دليل فلا يصح.
وعلى كل حال: مما يدل على ضعف القول بوجوب طواف الوداع على المعتمر؛ أنه لما قالوا بوجوبه تعارضت أقوالهم: فقال بعضهم: إذا جلس المعتمر وصلى فرضاً واحداً ثم سافر فعليه طواف الوداع.
وقال بعضهم: إذا صلى ثلاثة فروض.
وقال بعضهم: خمسة فروض.
وقال بعضهم: إذا مكث يوماً.
وقال بعضهم: إذا بات بمكة.
وهذا التعارض والتناقض في الأقوال يدل على أنه ليس هناك أصل، ويدل على ضعف الأصل؛ لأنه لو كان المعتمر عليه طواف وداع لبينت الشريعة ونصت النصوص متى يجب على المعتمر أن يطوف طواف الوداع ومتى يسقط عنه، فإذا ثبت أن المعتمر لا وداع عليه زال هذا الإشكال.
فإذاً: إذا خرج الحاج للعمرة وجاء بالعمرة فإنه متى ما أراد السفر فإنه طاف طواف الوداع.
ومن أهل العلم من قال: إذا اعتمر الحاج ونوى في عمرته أن يفارق بعد عمرته البيت دخل طواف الوداع تحت طواف العمرة، وأجزأه طواف العمرة عن طواف الوداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافاً) والسعي بعد الطواف لا يقطع الطواف، ومن هنا قالوا: لو أن معتمراً جاء مباشرة وطاف وسعى ثم صدر، فلا وداع عليه.
فالسعي لا يقطع وداع البيت، وعلى هذا فإنه إذا صدر بعد عمرته مباشرة سقط عنه طواف الوداع، وأما إذا بقي بعد عمرته فإنه يجب عليه أن يطوف طواف الوداع عند خروجه، على الأصل الذي دل عليه حديث الصحيح: (أمر الناس أن لا ينفروا حتى يكون آخر عهدهم بالبيت طوافاً).
والله تعالى أعلم.