قال رحمه الله: [فله رجعتها في عدتها ولو كرهت].
فله أن يملك ارتجاع هذه الزوجة في عدتها.
إذاً الحكم الأول: أن من حقه الرجعة.
الحكم الثاني: أن هذه الرجعة تختص بالعدة، فلا ينتظر حتى تخرج عليه عدتها، وسيأتي بيان العدد وأحكامها إن شاء الله تعالى.
فإذاً يحق له ارتجاعها بشرط أن تقع هذه الرجعة أثناء العدة، وقبل خروج المرأة من عدتها بوضع حملها إن كانت ذات حمل، أو بعدة الأشهر إن كانت آيسة أو صغيرة، أو بثلاثة قروء وهي الأطهار إن كانت من ذوات الحيض.
فإذا وقعت الرجعة أثناء العدة فإنه يمتلكها الزوج ولو كرهت الزوجة، والدليل على ذلك قوله تعالى في شأن المطلقات طلاقاً رجعياً: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فدلت هذه الآية الكريمة على أن من حق الزوج أن يرتجع زوجته.
ولكن اشترط سبحانه وتعالى أن يكون ارتجاع الزوجة للإصلاح وليس للإضرار؛ والسبب في ذلك: أنه كان بعض الناس قبل شرعية هذا الحكم يطلق المرأة ثم يراجعها، ثم يطلق المرأة ويتركها تعتد وقبل أن تخرج من عدتها يردها ثم يطلقها من جديد، ثم يتركها تعتد حتى إذا قربت من الخروج من عدتها ردها، وهكذا حتى تبقى كالمعلقة لا زوجة ولا مطلقة، كما قال تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129].
وقد هدد بعض الصحابة زوجته بذلك، وقال: إني لا أدعك تحلّين لزوج من بعدي وأفارقك، فقالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك حتى إذا قاربت الخروج من عدتك راجعتك، ثم أطلقك حتى إذا قاربت الخروج من عدتك راجعتك إلى آخره؛ فأنزل الله تعالى آية البقرة بتشريع الطلاق ثلاثاً، وأن المرأة إذا خرجت من عدتها لم يملك الزوج إرجاعها كما في آية البقرة التي ذكرناها في شرعية الطلاق بالثلاث، فتضمنت أنه إذا خرجت المرأة من العدة فإن الزوج لا يملك إرجاعها لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فالظرفية في قوله: (في ذلك) أي: في مدة العدة التي عبر عنها قبل في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228].
الأمر الثاني: أنه يستحق الزوج إرجاع زوجته، بشرط أن يردها للإحسان لا للإساءة، كما ذكرنا في خبر الصحابي رضي الله عنه أنه أراد الإضرار، ولذلك قال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231].
ومن هنا قسم العلماء الرجعة إلى: رجعة واجبة، ورجعة مستحبة، ورجعة محرمة.
فالذي يريد إرجاع زوجته: إما أن يجب عليه إرجاعها في قول بعض العلماء رحمهم الله، وإما أن يكون مستحباً له إرجاعها، وإما أن يكون محرماً عليه إرجاعها.
فأما بالنسبة لوجوب إرجاع الزوجة فمذهب طائفة من العلماء: أنه يجب على الزوج أن يراجع زوجته إذا طلقها في الحيض، وهو مذهب الحنفية والمالكية، فيرون أنه طلاق بدعي، وأنه خطأ، ولا يمكن إصلاح هذا الخطأ إلا بردها، قالوا: ودليلنا قوله عليه الصلاة والسلام: (مره فليراجعها) فإنه أمر، والأمر يدل على الوجوب، قالوا: فيجب عليه أن يراجعها.
الحالة الثانية: أن تكون الرجعة مستحبة وهي: إذا انتفت الموانع والدوافع، فإنه يستحب للإنسان أن يراجع زوجته المطلقة إذا غلب على ظنه أنها ستصلح الأحوال، وغلب على ظنه أن في ذلك خيراً للمرأة، فقالوا: الأفضل والأكمل أن يراجعها؛ لأن إرجاع الزوجة ربما يكون فيه الرفق بالأولاد، خاصة إذا كانت ذات أولاد وذرية، فإنه ربما لا تجد زوجاً من بعده، خاصة إذا كانت كبيرة أو ذهب جمالها، فإنه ربما بقيت عانساً، وقد لا يأمن عليها الوقوع في الحرام، فإذا علم الله بقرارة قلبه أنه يريد إرجاعها من أجل أن لا تتعرض للحرام، ويريد ارتجاعها رفقاً بأولاده ولطفاً بهم، فإنه قد فعل أمراً مستحباً، وعلى الله أجره وثوابه، وقد أحسن في ذلك.
وأما بالنسبة لتحريم رجوع المرأة فتحرم الرجعة إذا قصد الزوج منها أذية المرأة والإضرار بها وقال: أردها حتى أنتقم منها أو أوذيها، فإنه إذا ثبت عند القاضي بشاهدة الشهود أنه قال هذا الكلام، فمن حق القاضي أن يمنعه من ارتجاع زوجته؛ لأن الله يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] ومفهوم الشرط في قوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] أنه لا حق لهم إذا كانوا لا يريدون الإصلاح.
كذلك أيضاً: إذا كان رجوع المرأة فيه شر وفساد، مثل أن تتعاطى المحرمات، أو تقع في الزنا فتخلط عليه نسبه، وتفسد عليه فراشه، ولم يعلم منها توبة، بل علمها فاسدة، وطلقها من أجل ذلك، فمثل هذه لا يجوز له أن يراجعها؛ لأنه إذا راجعها آذى أولاده وذريته، وأفسد فراشه ونسبه، فلا يحل له أن يتعاطى مثل هذه الأمور؛ لأن لأولاده وذريته عليه حقاً في مثل هذا، فلا يجوز له أن يعرّض نسبه لهذه المخاطر العظيمة، والشر والبلاء الكبير.
على كل حال فقد بيّن المنصف رحمه الله أنه يستحق الرجعة بهذه الشروط التي أشار إليها رحمه الله، فيزاد إليها شرط: قصد الإحسان والإصلاح؛ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228].