Q رجلٌ محتاجٌ إلى مال وعليه دين فهل يجوز أن يتوكل عن أحدٍ ويحج عنه مقابل مبلغٍ من المال، وما بقي من هذا المال يسد به حاجته وديونه؟
صلى الله عليه وسلم أوصيكم ونفسي دائماً أن لا يدخل الإنسان أمور الدنيا في الدين، فالله عز وجل أحل لعباده الطيبات، وأحل لهم المكاسب التي يتوصل الإنسان عن طريقها إلى الحلال، فيستغني الإنسان بربه، إذا كان يريد الدنيا فسوقها معروف، وإذا أراد الآخرة فليسعى لها سعيها وهو مؤمن، أي: مخلص موحد {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] انظر كيف قال الله: (أولئك) وهو اسم إشارة يدل على علو الدرجة وكما قال: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69] ثم قال: (كان) وهي تدل على الدوام والاستمرار، ثم ذكر السعي، ولم يقل: كان منهم ذلك مشكورا، بل قال: {كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} أي السعي: الذي سعوه بتوحيدٍ وإخلاص مشكور من الله عز وجل، فنعم السعي ونعم الساعي.
فإذا أردت أن تتاجر في الدنيا فسوقها معروف، وأحل لك ربك التجارات، وأباح لك الطيبات، فأما الحج فصنه عن الأخذ والعطاء والبيع والشراء، ولا تجعل الحج سلعة تزايد عليها وتساوم عليها، والصحيح عند العلماء: أنه لا يصح أن يحج عن الغير مقاطعة، أي: يقول له: أعطني خمسة آلاف ما زاد لي وما نقص أكمله لا يجوز هذا؛ لأنه بيع وشراء بالعبادة.
والواجب عليه أن يأخذ أجرة تبلغه الحج، فيكون خرج إلى الحج من أجل الحج، ولم يجعل حجه وعبادته ومشاعره مساوماً عليها بالدنيا، فهذه يراد بها وجه الله، وما جعل الحج ولا جعلت المناسك ولا جعل البيت ولا جعلت الصفا والمروة إلا لوجه الله جل جلاله، وأنت تقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، فالإنسان يخرج لوجه الله عز وجل، وابتغاء مرضاة الله عز وجل، يخرج بحجٍ خالص لوجه الله سبحانه وتعالى، لا للدنيا التي يريدها.
وصحيح أن الله أحل لنا أن نبتاع ونشتري في الحج لكن هذا وقع تبعاً وما وقع أساساً وأصلاً، أما شخص يقول: أنا ما أحج إلا لما تعطيني خمسة آلاف ريال، فمعناه: أن الخمسة الآلاف هي التي أخرجته، وجعلت همته للحج قوية.
والواجب على المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن المال إذا أُخذ بالدين فإنه منزوع البركة، وأن يعلم أن هذا المال الذي يأخذه قد يؤثر على عبادته وقد يؤثر على صلاته، وقد يؤثر على خشوعه، فعليه أن يتقي الله عز وجل.
فلا تجعل الحج محلاً للبيع والشراء، وارفع نفسك عن المساومة في شيء أراده الله لوجهه خالصاًَ لا شريك له.
فإذا أردت الحج عن الغير من أجل طاعة الله، تقول: أنا إنسان ما عندي نفقة ومحتاج وأريد شيئاً يبلغني الحج، فهذا يدل على أنك مشتاق إلى ذكر الله، مشتاق أن تكون مع الذاكرين ومع الملبين ونفسك تتقطع حرقة أن تحرم هذا الخير، فتقول: أعطني ما يبلغني بيت الله عز وجل، ما يبلغني الوقوف في هذه المشاعر، من أجل أن تذكر الله وحده لا شريك له، ثم تأتي وترد له ما زاد ولا تريد منه ديناراً ولا درهماً وإنما تريد وجه ربك وحده لا شريك له، إن فعلت ذلك طبت وطاب ممشاك وكان أجرك على الله عز وجل، ومن كان أجره على الله فقد تولى الله أمره والله نعم المولى ونعم النصير.
فعلى الإنسان أن يكون مخلصاً في كل شيء وفي العلم أيضاً، ولذلك قالوا: العالم يكون عالماً إذا لم يتكبر على من دونه، أي: لم يتعاظم على من دونه، ولم يحتقره، ولم يتعال على من فوقه، أي: لم يشوه من فوقه من العلماء فلا ينتقصهم أو يختبرهم، أو يحتقرهم، ولا يأخذ على علمه أجرا، فإذا فعل هذا طاب علمه وزكى، فأمور الآخرة لا تطيب ولن تطيب ولن يتقبلها الله إلا إذا أريد بها وجهه سبحانه وتعالى، وإذا فعل العبد ذلك تولى الله جزاءه، وتولى الله أجره في الدنيا والآخرة، فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل.
ولذلك ما رأينا أحداً أدخل الدنيا في الدين إلا وجد شؤم ذلك في دنياه قبل أن يلقى ربه في آخرته، ووالله ما وجدنا شيئاً ينزع البركة مثل إدخال الدنيا في أمور الدين، والعبث بهذا الدين، سواءً في دعوة الإنسان، سواءً في علمه، سواءً في قراءته، في توجيهه، في نصحه، في وعظه، في خطبه.
فالواجب على المسلم في كل شيء أن لا يدخل الدنيا في أمور الدين، ولا يجعلها أكبر همه، وأن يراقب قلبه ويخاف الله عز وجل فلو قيل له: لا نعطيك شيئاً، مضى لوجه الله أشد حرصاً مما لو أعطي من الدنيا.
على المسلم دائماً أن يجعل الآخرة أكبر همه، ومبلغ علمه، وغاية رغبته وسؤله، وإذا فعل ذلك زكى الله عز وجل أمور دينه، ولذلك تجد البركة والخير في بعض مبتدئي طلبة العلم، عندما يطلب العلم وليس في قلبه إلا الله سبحانه وتعالى، قد يكون فقيراً، وقد يكون محتاجاً، وقد يكون مديوناً، وقد يكون مكروباً منكوباً مهموماً مغموماً ويصبر السنوات ثم بإخلاصه يفضل ربه عليه فيبدد همه، وينفس كربه، ويزيل غمه، ويقضي دينه، ويعلي درجته، ويحسن عاقبته، ويزكي ما يقوله وما يعمله.
والله لن تجد من ربك إلا كل خير، متى ما أصلحت قلبك لله عز وجل، ودائماً في كل كلمة تقولها، وفي كل عمل تعمله من أمور الآخرة اطعن في نفسك بأنك ما أردت وجه الله، حتى تبلغ درجة المخلصين الصادقين فعندها يستقيم قولك، ويطيب عملك وترى ما الذي سيعطيك الله من خير الدنيا قبل الآخرة، ومن أراد أن يرى ذلك جلياً فلينظره في صفوة الله عز وجل من خلقه من الأنبياء والرسل الذين أحسن الله عواقبهم في الأمور كلها، وجعل لهم عز الدين والدنيا والآخرة بإخلاصهم وتوحيدهم لله عز وجل، فما كانت الدنيا أكبر همهم، ولا مبلغ علمهم، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه: (ما أحب لو أن عندي مثل أحدٍ ذهباً)، جبل أحد الذي يقارب ثلاثة كيلومترات، وهو من أضخم الجبال وأكبرها يقول لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! هل ترى أحداً؟ فنظرت إلى الشمس) وأحد يُرى من المدينة من ضخامته، يقول له هذه الكلمات تعليماً لكل مسلم، ونزعاً لهذه الدنيا من القلوب حتى لا تدخل على الدين فتفسده وتفسد صفاء القلب وإخلاصه؛ لأنها فتنة عظيمة، فيقول له: (يا أبا ذر! هل ترى أحداً؟ قال: فنظرت إلى الشمس، وأظن أنه سيبعثني إلى أحد، فقال: هل ترى أُحداً؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما أحب لو أن عندي مثل أحدٍ ذهباً - ليس فضةً بل ذهباً - تمسي عليَّ ثالثة أو رابعة) تصوَّر! ثلاثة كيلومترات كلها ذهب، ما قال: يمسي علي يوم واحد؛ لأنه ما يستطيع أن يوزعه في يوم واحد، فهو الصادق عليه الصلاة والسلام ولا يبالغ قال: (ما أحب لو أن عندي مثل أحدٍ ذهباً تمسي عليَّ ثالثةٌ أو رابعةٌ وعندي منه دينارٌ أو درهم)، نُزِعت الدنيا بالكلية من قلبه عليه الصلاة والسلام، فلم يبالِ بها، كان بيته عليه الصلاة والسلام حجرة لا يستطيع أن يسجد وأم المؤمنين رضي الله عنها مضطجعة حتى تقبض رجلها من ضيق هذه الحجرة؛ ولكن وسعه الله بالإخلاص والتوحيد، ووسعه الله بإرادة وجهه سبحانه وتعالى، وبما فيه من النور والحكمة، ولما يتلى فيه من آيات الله والحكمة، فالدنيا هينة، ومن أخلص عمله جاءته الدنيا صاغرة.
ووالله ثم والله ما عاملتَ الله بصدق إلا صدقك ربك، وثق ثقة تامة بذلك، واقرأ في سير العلماء، ونحن نشهد الله ونشهد ملائكته، ونشهد خلقه أجمعين أننا ما رأينا من الله في هذا العلم وفي هذا الدين إلا كل خير، وأن الله سبحانه وتعالى أعطانا وأولانا وأكرمنا وأحسن إلينا فوق ما كنا نرجو، وفوق ما كنا نأمل، وفوق ما كان يدور بخيالنا.
فما عليك إلا أن تخلص لله عز وجل، وإياك أن تدخل الدنيا في أمر من أمور دينك فيفسد عليك دينك.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الإخلاص لوجهه، وابتغاء ما عنده، وأن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا وغاية رغبتنا وسؤْلِنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.