من علق الطلاق على فعل شيء ففعله ناسياً

قال المصنف رحمه الله: [وإن فعل المحلوف عليه ناسياً أو جاهلاً حنث في طلاق وعتاق فقط] النسيان: ذهاب الشيء عن بال الإنسان فلا يتذكره، والناسي إذا ذُكِّر يتذكر غالباً، وهذا من النقص الذي جعله الله عز وجل في بني آدم، ويعتبر النسيان من الأعذار الموجبة للتخفيف، فرحم الله العباد بإسقاط المؤاخذة عنهم حال النسيان، والنصوص في هذا واضحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن الله عز وجل أنه لما دعا المؤمنون بهذا الدعاء قال الله: (قد فعلت) أي: لا أؤاخذكم إن نسيتم أو أخطأتم، وقال عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والإجماع منعقد على أن النسيان عذر، لكن في الشريعة تفصيل في هذا العذر: ففي بعض الأحيان يوجب سقوط المؤاخذة عن الإنسان من حيث الإثم ومن حيث التبعية، فلا يؤاخذ بضمان، وذلك في حق الله عز وجل خاصة، مثال ذلك: لو تطيب الحاج ناسياً، ثم تذكر فغسل الطيب فلا شيء عليه في أصح قولي العلماء رحمهم الله ولا يأثم؛ لأنه لم يقصد وضع الطيب، وإنما الآثم هو الذي يمنعه ربه فيعتدي حدود الله وهو مستشعر هذا الاعتداء، أما هذا فهو ناسٍ وليس عنده إرادة العصيان لله عز وجل في هذا الشيء، فلا يحكم بإثمه من هذا الوجه، فأسقط الله عنه المؤاخذة، وهذا يسمى: سقوط المؤاخذة، وأما الضمان فإنه يسقط عنه، ولا تجب عليه الفدية عند الشافعية والحنابلة، أما عند الحنفية والمالكية فتجب عليه الفدية، يقولون: يسقط عنه الإثم ولا يسقط عنه ضمان حق الله عز وجل، والصحيح: قول الشافعية والحنابلة، فمن تطيب ناسياً أو غطى رأسه ناسياً أو لبس مخيطاً ناسياً ثم أزال ذلك لما تذكر فإنه يسقط عنه الإثم وتسقط عنه المؤاخذة.

وبعض مسائل العبادات والمعاملات يجب فيها ضمان الحق على الناسي إذا وقع في خلل، فيسقط عنه الإثم لمكان النسيان، ولكن يجب عليه ضمان الحق، خاصة في حقوق الناس، مثال ذلك: رجل استدان من آخر ألف ريال ثم نسي هذه الألف نسياناً كلياً، وتخاصما عند القاضي فقال: هل لفلان عليك شيء؟ قال: لا، ليس عندي شيء، قال: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، قال: أتحلف اليمين؟ فحلف اليمين، فهو حلف بالله أنه ليس عنده شيء؛ لأنه لم يتذكر، ويجوز للإنسان أن يحلف على غالب ظنه ويقينه، فهو لم يتذكر أن لفلان عنده شيء، أو ظن أنه قد قاضاه، ثم بعد سنة أو سنوات تذكر أن لفلان عنده ألف ريال، فهذا النسيان يسقط عنه الإثم في حلفه، ويسقط عنه الإثم في القضاء، ولكن يجب عليه ضمان الألف الريال، مع أن القاضي قد حكم أن ذمته بريئة، فلا يسقط هذا الحق، ويجب عليه أن يضمن الحق لصاحبه، فيرد الألف ريال للشخص الذي استدانها منه، فهذا في حق المخلوق، وكذلك يجب عليه ضمان الحق في حق الخالق كما لو صلى ركعة من صلاة الصبح وظن أنه قد صلى الصبح تامة، ثم تذكر بعد طلوع الشمس أنه لم يصل الصبح، فهو معذور، ولكن لما تذكر يجب عليه ضمان حق الله عز وجل فيتوضأ ويصلي ولو خرج الوقت كما في الحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك).

فهذه قاعدة: (إذا ألزمت الشريعة الناس بالضمان فهذا من باب الحكم الوضعي، وإذا أسقطت عنهم المؤاخذة فهذا من باب الحكم التكليفي)، والحكم الشرعي: إما حكم تكليفي وإما حكم وضعي، فمن حيث إسقاط المؤاخذة من جهة التكليف لا يحكم بإثم، ولذلك قال بعض العلماء: الناسي ليس بمكلف أثناء النسيان، فيسقط عنه الحكم من جهة الجانب التكليفي، لكن من جهة الجانب الوضعي لا يسقط عنه؛ لأن الشريعة أوجبت على الإنسان ضمان الحق بكل وجهٍ، فيضمن الحقوق لأهلها، وكونه ناسياً ثم يتذكر فإنه يعذر أثناء النسيان لكن بعد النسيان يجب عليه الضمان، فالنسيان والخطأ إذا ألزمت الشريعة فيهما بضمان فهذا من باب الحكم الوضعي.

مثال: لو أن رجلاً رأى طيراً وأطلق سلاحه ليصيده فأصاب شخصاً فقتله، فهذا خطأ مثل النسيان وكلاهما عذر، لكن يجب عليه أن يضمن دية هذا الشخص وأن يكفر كفارة قتل الخطأ، مع أنه خطأ، لأن الشريعة آخذته من باب الحكم الوضعي وليس من باب الحكم التكليفي، فالشريعة أوجبت الضمان لوجود القتل، بغض النظر عن كونه قاصداً أو غير قاصد.

مسألة: إن قال: إن دخلتُ الدار فامرأتي طالق، أو نسائي طوالق، ثم نسي هذا التعليق بالطلاق ودخل وهو ناسٍ، فهل يؤاخذ أو لا يؤاخذ؟ قال طائفة من العلماء: لا شيء عليه ولا يقع عليه الطلاق، وقال طائفة من العلماء: يؤاخذ في الطلاق وفي العتاق، قالوا: إن الطلاق أمره على الخطر حتى أن جده جد وهزله جد، والشريعة جعلت هذا اللفظ موجباً للمؤاخذة، فنحن نؤاخذه ولو كان ناسياً، وهذا الذي اختاره المصنف رحمه الله في الطلاق وفي العتاق كذلك، كما لو علق عتق عبده على دخول داره ثم نسي ودخل الدار ناسياً فإنه يحكم بعتق عبده؛ لأن النسيان لا يوجب سقوط العتق والطلاق؛ لأنه من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015