بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: وإن حلف لا يدخل داراً أو لا يخرج منها، فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب، أو لا يلبس ثوباً من غزلها، فلبس ثوباً فيه منه، أو لا يشرب ماء هذا الإناء، فشرب بعضه لم يحنث] عقد المصنف رحمه الله هذا الفصل لبيان جملة من المسائل التي تتعلق بتعليق الطلاق نفياً وإثباتاً على فعل شيء أو تركه، فمتى يصدق عليه أنه أخل يُحكم بوقوع الطلاق، ومتى لا يصدق عليه ذلك فلا يحكم بوقوع الطلاق، وهذا يتوقف على جملة من الصفات يعلق الطلاق على وجودها، وهذه الصفات قد يريد بها الكل أو يريد بها البعض فينظر في هذا الاسم الذي ذكره، هل يصدق على كل الشيء أو بعض الشيء؟ وهل الذي فعله الكل أو البعض؟ ثم بعد ذلك يُحكم بالوقوع وعدمه.
قال المصنف رحمه الله: (إن حلف لا يدخل داراً) فإذا قال: إن دخل بيت فلان فامرأته طالق، أو قال بالعكس: امرأته طالق إن خرج من بيته اليوم، أو نحو ذلك.
فإذا علق الطلاق على الدخول فلا بد من وجود الدخول على الصفة الكاملة؛ لأن الإنسان قد يدخل بكامل جسده وقد يدخل بعض جسده فقط، فهل امرأته تطلق بمجرد وقوع الدخول لبعض الجسد، أم أنها لا تطلق إلا إذا حصل الدخول الكامل للجسد؟ وهل الجزء يُنَزَّل منزلة الكل أو لا؟ نقول: إذا وقع الدخول للجسم كله فلا إشكال أن امرأته طالق؛ لكن لو أنه أدخل يده لاستخراج شيء من البيت فهل تطلق المرأة؟ وهكذا لو أنه أدخل رجله ثم تذكر ورجع ولم يُدخِل كلَّ جسده، فهل نحكم بالطلاق؟
صلى الله عليه وسلم لا بد من دخول جسمه كاملاً، والجزء لا يأخذ حكم الكل، والشريعة أحياناً تعطي الجزء حكم الكل، وهذا بالسريان، أو بالتجوز في اللفظ، وأحياناً لا تعطي الجزء حكم الكل، فتعطي الجزء حكم الكل كما إذا قال: يدك طالق، فالحكم كأنه قال: أنت طالق؛ لأن الطلاق لا يتعلق بالجزء وحده، ولا يمكن إسقاط الطلاق الذي أثبته، فهنا يأخذ الجزءُ حكمَ الكل، ومن ذلك إطلاق الشرع للمسجد الحرام على مكة كلها، وكذا تسمية الصلاة بالسجدة، وتسميتها بالركعة، وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، لكن هناك مسائل لا تعطي فيها الشريعة الجزء حكم الكل وهي كمسألتنا، ومثل: مسألة الاعتكاف لو كان معتكفاً في المسجد فأخرج يده فإنه لا يبطل اعتكافه؛ لأن الاعتكاف يبطل بخروج الإنسان من دون حاجة من المسجد، فلو أخرج يده أو رجله أو جزءاً من جسده ولم يخرج بكل بدنه فإنه لا يبطل اعتكافه، فلابد من وجود الكل تاماً على الوجه المعتبر حتى يُحكم بوقوع ما رتب المكلف وقوع الشيء عليه، وفي السنة ما يدل على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً في مسجده، فكان يناولها رأسه وهو معتكف فترجله) فهذا يدل على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل؛ لأنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد، كذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عائشة وهو معتكف: (ناوليني الخمرة، قالت: يا رسول الله! إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك) لأنه قال: ناوليني، ومعنى ذلك: أنها ستدخل يدها، ففهمت عائشة أنها ممنوعة جزءاً وكلاً، فقالت: يا رسول الله! -وهي فقيهة رضي الله عنها- إني حائض، فقال: (إن حيضتك ليست في يدك)، يعني: أنك إن أدخلت اليد لم يكن ذلك دخولاً للجسم كله، وهكذا هذه المسألة التي ذكرها المصنف فلا يحنث بإدخال بعض جسده.
ثم عندنا استصحاب الأصل أنها امرأته، ولم يقع الدخول على الوجه التام الكامل، والأصل عدم الطلاق، فإذا قال: امرأته طالق إن دخل بيت محمد فأدخل جزءاً من جسده لم يحكم بطلاقٍ امرأته حتى يدخل جسمه كاملاً ولو للحظة يسيرة، فإذا دخل جسمه كاملاً ولو لطرفة عين فإنه تطلق عليه امرأته، وأما دخول بعض الجسم فلا يوجب ذلك ثبوت الطلاق.
العكس لو قال: امرأته طالق لو خرج اليوم من بيته، فأخرج يداً أو أخرج رجلاً، أو أخرج رأساً، لم تطلق امرأته حتى يخرج بتمامه وكماله.
مسألة: لو قال: امرأته طالق إن خرج من البيت وكانت امرأته حاملاً، وشاء الله أن تضع في الساعة السادسة، وفي الساعة السادسة إلا عشرة أخرج الزوج جزءاً من بدنه من البيت، ثم خرج من البيت بعد الولادة، فحينئذٍ تعتد بعد الولادة لأن الطلاق وقع بعد الولادة، ولكن إن وقع خروج الجسم كاملاً قبل ولادتها ولو بلحظة فإنها تطلق قبل الولادة وقت خروجه من البيت، وتخرج من عدتها بالولادة؛ لأن المطلقة الحامل تخرج من عدتها بالوضع، فحينئذٍ إن خرج الزوج بكل جسده قبل الولادة ولو بوقت يسير فإنه يحكم بكونها أجنبية؛ لأنها خرجت من عدتها بالوضع، أما لو أخرج بعض جسده ثم وضعت ولدها ثم خرج بجسمه كله بعد وضعها لولدها فتستأنف عدتها بالحيض؛ لأن الطلاق وقع بعد الولادة.
والحاصل: أن الجزء لا يأخذ حكم الكل في مسألتنا؛ لأنه علق الطلاق على صفة الدخول فلا بد من وقوعها من الجسم كاملاً ولا يجزئ وقوع البعض، وكذلك الحال في الخروج.
(أو دخل طاق الباب) هو القوس الذي تكون فيه عضادتي الباب، فلو جاء رجل ودخل على فم الباب ووقف على نفس الطاق بحيث إن جسمه مسامت للطاق، هذا هو الحد، فإن جاوزه حصل الدخول الفعلي بحيث يخلف هذا الطاق وراء ظهره ويدخل، وإن خرج وخلَّف الطاق وراء ظهره خروجاً فقد خرج، فالعبرة بهذا الحد الفاصل الذي يعتمد عليه الباب ويسمى: طاق الباب، فإن جاوزه حكم بالطلاق دخولاً وخروجاً، وإن لم يجاوزه لم يحكم بوقوع الطلاق.
(أولا يلبس ثوبا من غزلها فلبس فيه منه) علق الطلاق على لبس ثوبٍ من غزل امرأته، أو غزل أخته، أو غزل أمه.
الخ.
واللبس هو: الدخول في الشيء، فلو حلف بالله أنه لا يلبس الثوب، فنام ووضع الثوب فوقه، لم يحنث؛ لأنه لم يدخل فيه؛ لأن اللبس حقيقته الدخول، ولو كان محرماً فأخذ الثوب ووضعه على كتفيه لم تلزمه الفدية؛ لأنه لم يلبس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم) بحيث يقع الدخول الفعلي.
وفي هذه المسألة: إذا كان الثوب فيه شيء من غزل المرأة ولبسه فقد حصل الدخول، ولذا قال بعض العلماء: يحنث ولو كان فيه أقل ما يكون من غزل المرأة، واختار المصنف أنه لا بد وأن يكون منسوجاً من غزلها نسجاً كاملاً، فلو كان النسج في بعض الثوب أو كان في هذا الثوب شيء من غزلها فإنه لا يحكم بالطلاق على ما اختاره رحمه الله، فيعلق هذا على التمام والكمال، فلا بد وأن يكون الثوب منسوجاً كله من غزلها حتى يقع الطلاق وإلا لم يقع.
(أو لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه لم يحنث) الإناء ينقسم إلى قسمين: إناء كبير وإناء صغير، فالكبير الذي لا يمكن لمثله أن يشربه، فإذا كان الإناء صغيراً فعلى ما ذكر المصنف من أنه إذا قال الرجل: لا يشرب ماء هذا الإناء، فمعناه: إن شربه تاماً كاملاً وقع الطلاق، فلو شرب منه وبقي منه بقية ولو قليلة لا يقع الطلاق؛ لأنه علقه على شربه تاماً كاملاً، فالمسألة مبنية على ما تقدم من أنه لا يأخذ البعض حكم الكل.
أما لو كان الإناء كبيراً فإنه لا يقدر على شرب كل ما في الإناء لأنه أمر مستحيل، مثل أن يقول: لا يشرب ماء هذا النهر، فإنه لا يمكن شرب كل النهر وإنما المراد أن لا يشرب من النهر، فهذه قرينة تدل على أنه يريد الشرب من الإناء أو من النهر.
والطلاق تارة يعلق على الشرب، وتارة يعلق على المشروب، وتارة يعلق على الإناء نفسه، فقد يقصد بقوله: لا يشرب من هذا الإناء، المشروب الذي فيه، فلو شرب منه ولو بعضه فإنه يقع الطلاق عند بعض العلماء لأن (من) للتبعيض، إذا قصد المشروب الذي داخل الإناء؛ لأن الإناء لا يُشرب وإنما يشرب الذي بداخله، فإذا قال: لا أشرب من هذا الإناء وقصد البعض فإنه لا يحنث إلا بالبعض، وإذا كان مراده: كل الإناء، فحينئذٍِ يرد فيه التفصيل ما بين الكبر والصغر، وأما إن قصد الإناء نفسه أنه لا يشرب منه، مثل أن يختصم مع رجل وقال له: امرأتي طالق إن شربت من إنائك، فيبقى الطلاق معلقاً على وقوع الشرب من الإناء سواءً كان فيه ماء أو غير ماء؛ لأن العبرة بالإناء نفسه، بغض النظر عن الذي يكون فيه، فإذا شرب من الإناء حكم بالطلاق.
إذاً: تارة يقصد بالامتناع عن الشرب من إناء مخصوص، وتارة يقصد نفس الشراب الذي في الإناء، فإن قال: والله ما أشرب من ماء هذا الإناء، ووضع في الإناء شراب برتقال أو لبناً لم يحنث، ولم يقع الطلاق؛ لأنه خصص فقال: من ماء هذا الإناء، وقصد الماء فلا ينصرف إلى غيره.
الخلاصة: أنه تارة يقصد الإناء نفسه، فحينئذٍ يقع الطلاق بأي مشروب في هذا الإناء سواء كان ماءً أو غيره، وتارة يقصد الماء الموجود في الإناء فيفصل بين أن يقصد تمام الإناء أو بعض الإناء، كما لو وجدت قرينة تدل على أنه يريد البعض، وتارة يقصد الأمرين سواءً كان في الإناء مشروب من الماء المسمى، أو كان غيره، فحينئذٍ يقع بأي واحد من الأمرين، سواء كان فيه شراب أو غيره وسواء استتمه أو لم يستتمه، فيحكم بوقوع الطلاق.