قال المصنف رحمه الله: [وأنت طالق وعبدي حرٌ إن شاء الله وقعا]: أصل التقدير: أنتِ طالق إن شاء الله وعبدي حر إن شاء الله، وهذا النوع الثاني من الإسناد بالمشيئة وهي مشيئة الله عز وجل.
مشيئة الله عز وجل يختلف حكمها في الطلاق والعتاق والأيمان، يقول: أنتِ طالق إن شاء الله، أو: عبدي حر إن شاء الله، أو: والله لا آكل إن شاء الله، وهكذا.
هذه المسألة تعرف بمسألة الاستثناء بمشيئة الله عز وجل، ووجه ذلك: أنه يستثني الطلاق ويجعله معلقاً على وجود المشيئة، يقول: امرأتي طالق إن شاء الله، ففي هذه الحالة اختلف العلماء -رحمهم الله- هل يقع الطلاق أو لا يقع؟ فيها قولان مشهوران، لكن قبل أن نذكر القولين نُنبِّه على مسألة وهي أن من قال: إن شاء الله، لابد أن يكون قاصداً للتعليق، فينوي في قرارة قلبه أنه معلق لطلاقه على مشيئة الله عز وجل، فلا يأتي يقول: إن شاء الله، بلسانه هكذا بالعادة أو نحوها، إنما يقصد ذلك بقلبه، فمن العلماء من يقول: لابد أن تكون عنده نية بالمشيئة، من قبل أن يقول أنت طالق، وهذا عند من يرى أن المشيئة مؤثرة، فيقول: لو قال لها: أنت طالق، ثم طرأ عليه، أن يقيد بالمشيئة لم ينفعه؛ لأنه لما قال: أنت طالق، وقع الطلاق، فلا يصح بعد ذلك أن يقول: إلا أن يشاء الله، أو: إن شاء الله؛ لأن هذا نوع من التلاعب ونوع من إسقاط ما وجب، وما وجب لا يمكن إسقاطه؛ لأن الشرع جعل كل من يتلفظ بالطلاق يُلزم به حتى في حالة الهزل، فلو فُتح الباب للناس لتلاعبوا بالطلاق، فيطلق الرجل ثم يقول: إن شاء الله، ولهذا يشترط لمن قال: إن شاء الله، أن يكون قاصداً بنيته تعليق الطلاق على مشيئة الله عز وجل، ومحل هذا التعليق قبل أن يتلفظ بالطلاق، وقال بعض العلماء: يمكنه أن ينوي الاستثناء أثناء الجملة ما لم يتم جملة الطلاق، فلو قال لها: أنت، ثم تذكر أن يستثني، فقال: أنت طالق، إن شاء الله، أجزأه عند هؤلاء، حتى لو قال لها: أنت طا، وقبل أن يتم جملة طالق نوى في قرارة قلبه أن يقيد بمشيئة الله؛ أجزأه، أما إذا استتم الجملة ففيه خلاف عند من يقول بأن المشيئة تؤثر، فمنهم من يقول: إنه لا ينفعه ذلك؛ لأن الطلاق قد مضى، ومنهم من يقول: إنه ينفعه ذلك، وأعجب من هذا أن بعضهم يقول: له أن يستثني ولو بعد مدة طويلة شهر أو أشهر، وهذا قول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وبعض السلف، والذي عليه العمل عند من يقول بالاستثناء بالمشيئة: أن يكون في نيته أن يستثني قبل أن يستتم الجملة أو قبل أن يتكلم بها.
إذا ثبت هذا فللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: يقع الطلاق إذا علقه بمشيئة الله عز وجل مطلقاً، فإذا قال: أنت طالق إن شاء الله، وقع عليه الطلاق ويؤاخذ به، وهذا القول قال به: قتادة وسعيد بن المسيب من أئمة التابعين، ويُروى عن عطاء بن أبي رباح وقال به الثوري والأوزاعي وهو مذهب المالكية، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليهم.
القول الثاني: أنه لا يقع طلاقه، وهو قول بعض أئمة السلف من التابعين وهو مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
وهذا الخلاف إذا كان قوله: إن شاء الله، بقصد التعليق بخلاف ما لو قال: إن شاء الله، تبركاً بذكر الله عز وجل؛ لأن اسم الله مبارك فيقول: إن شاء الله أفعل، إن شاء الله أقول، ولا يقصد التعليق، ولا ينوي في قلبه التعليق، وكذلك مسبوق اللسان، مثل من عادته أن يقول: إن شاء الله، فلما قال: أنت طالق، قال: إن شاء الله، فجرى بها لسانه دون أن يكون قاصداً للتعليق بقلبه، وكذلك إذا قصد التحقيق، فيقول لها: أنت طالق إن شاء الله، تحقيقاً وإثباتاً للأمر، في هذه الصور كلها يقع الطلاق وجهاً واحداً عند العلماء، فمن قال: أنت طالق إن شاء الله، ولم ينو في نفسه التعليق وإنما قال: إن شاء الله، تبركاً بذكر اسم الله عز وجل، أو قاله تحقيقاً للوقوع كما يقول لك: آتيك إن شاء الله، بقصد التحقيق، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: تحقيقاً للحوقه وموته عليه الصلاة والسلام؛ فهذا كله يقع فيه الطلاق؛ لأنه ليس بتعليق ولا في معنى التعليق.
استدل الذين قالوا بوقوع الطلاق بقولهم: إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فعندنا لفظان: اللفظ الأول: قوله: أنت طالق، أو زوجتي طالق، أو امرأتي طالق.
واللفظ الثاني: قوله: إن شاء الله، الذي هو التعليق.
فوقع لفظ الطلاق المعتبر من الشخص المعتبر على الصفة التي لا يشك في وقوعه فيها، وعلق في الجملة الثانية على أمر لا يمكننا علمه، فلا نعلم هل شاء الله أو لم يشأ؟ قالوا: واليقين أنه مطلق، والتعليق نشك في تأثيره وبناءً على ذلك يُلزم بقوله، لأن الشريعة لم تفتح باب التلاعب في الطلاق أبداً، حتى أن الهازل إذا تلفظ به تؤاخذه، مع أنها قد عفت وسامحت في كثير من الأمور إلا هذا اللفظ، فما دام أنه قال: أنت طالق، والله في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته كلاهما حكم بأن من طلق فإنه يلزم بطلاقه، فنلزمه بالطلاق، وهذا اللفظ معتبر من الشخص ولا يؤثر فيه التعليق؛ لأنه أُسند إلى ما لا يمكن علمه، فلما أسند إلى ما لا يمكن علمه فمعناه: أن التعليق غير مؤثر؛ لأنه ما ثبت أن الله لا يشاء طلاقه، فنبقى على الأصل ونؤاخذه بلفظه، فيقع عليه الطلاق.
وبعض أئمة السلف له وجه ثانٍ من الاستدلال على وقوع الطلاق: وهو ما يلي: إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فنقول له: قد شاء الله طلاق امرأتك؛ لأنه أذن بالطلاق، فنعتبرها طالقاً، وهذا قول عطاء بن أبي رباح كان إذا سُئل عن هذه المسألة يقول له: (قد شاء الله طلاق امرأتك) لأنه أذن بالطلاق، فلما تلفظت به فإنه شاء تطليقها، وهو محكوم به شرعاً، فتلزم بطلاقها، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا سئل عن قول الرجل: أنت طالق إن شاء الله، قال: (من قال: أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق)، ويروى عن أبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى التعليق -يعني: بالاستثناء بالمشيئة- في الطلاق والعتاق) أي: أنه لا يؤثر في الطلاق ولا يؤثر في العتق، ولذلك ذكره المصنف -رحمه الله- في قوله: أنت حر إن شاء الله، فلم ير تأثيره في الطلاق، ولم ير تأثيره في العتق، وقولهما رضي الله عنهما: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أشبه بالإجماع، ولذلك قالوا: لم يحفظ لهم مخالف، وهو حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، يمضي عليه الطلاق.
واستدل أصحاب القول الثاني الذين ذهبوا إلى أنها لا تطلق، بقولهم: اليقين أنها امرأته، وهو علق الطلاق على مشيئة الله، ولم يثبت ما يدل على أن الله قد شاء طلاقها، قالوا: فلو علق الطلاق على مشيئة عبد لتوقفتم في الحكم عليه حتى ننظر هل يشاء أو لا يشاء؟ وهنا قد علق المشيئة على الله سبحانه وتعالى، وليس عندنا دليل يثبت أن الله قد شاء طلاقها، ومن هنا قالوا: لا تطلق عليه.
والقول بالوقوع من القوة بمكان؛ لأن أصحاب القول الثاني بنوا على القياس على من استثنى في اليمين، قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف فقال: إن شاء الله؛ لم يحنث) أخرجه الترمذي وحسنه، ومن العلماء من يقول: إنه صحيح لغيره، هذا الحديث يدل على أنه لو قال في اليمين: والله لا أفعل إن شاء الله، والله أفعل إن شاء الله، أنه لو لم يفعل أو فعل ما حلف على عدم فعله لم يحنث؛ لأنه علق على المشيئة، قالوا: والطلاق واليمين بابهما واحد، ولكن هذا ضعيف، فالطلاق يخالف اليمين، فإنه إذا قال: والله لا أفعل إن شاء الله، ولم يفعل، علمنا أن الله قد شاء أنه لا يفعل، وكذلك إذا قال: والله أفعل كذا إن شاء الله، فإنه إذا فعله فقد شاء الله عز وجل أن يفعله، ويمكننا العلم بمشيئة الله عز وجل، وبهذا فرق العلماء بينهما، وباب الطلاق من باب الإنشاء، وباب الإنشاء أضيق من أن يعلق، ولذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق، فقد طلق، ثم قوله بعد ذلك: إن شاء الله لا يمكن علمه، والأصل مضي الطلاق على كل من تلفظ به، فنلزمه بالطلاق، فالقول بوقوعه من القوة بمكان.
وأحب أن أنبه على أنني في المسائل الخلافية إذا قلت: الراجح كذا، والذي يترجح في نظري كذا وكذا، فلا شك عندي على غالب ظني أنه الراجح، لكن إذا قلت: أقواهما وأولاهما بالصواب، فهذا لا يستلزم الترجيح من كل وجه، بل القول الثاني يكون له وجه، وله قوة؛ تمنع من البت بالراجح في هذه المسألة.
فمن قال من العلماء: إن الاستثناء بالمشيئة مؤثر فإنه لا يوقع الطلاق، ومن قال: إنه غير مؤثر فإنه يوقع الطلاق، وإذا قلنا: الاستثناء بالمشيئة مؤثر، فبعضهم يقول: لا يؤثر إلا إذا تلفظ به وأسمعه للغير، فيقول: زوجتي طالق إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله، بصوت يسمعه الغير، ومن أهل العلم من يقول: لو حرّك بها لسانه دون أن يُسمع الغير بل لم يسمع غير نفسه فإنه يجزئه، وهذا القول الثاني هو الأقوى، يعني: لو قلنا بتأثير الاستثناء بالمشيئة فإنه لابد وأن يتلفظ بذلك في الحكم والقضاء، ويجزئه أن يكون اللفظ بقدر يسمعه هو.
لكن لو قال أمام الناس: زوجتي طالق، وسمعه الناس يقول: زوجتي طالق؛ ثم قال: إن شاء الله، بصوت لم يسمعه إلا هو، ثم رفع عند القاضي، فإن القاضي يطلقها عليه قضاء، ولا تطلق عليه ديانة وفتوى، وهذا عند من يرى أن الاستثناء بالمشيئة مؤثر، لأن الذي سمعه الناس وقامت عليه البينة هو قوله: أنت طالق، فلو فتح الباب لتلاعب الناس، وأصبح كل رجل يقول لامرأته: أنت طالق، ثم يقول: استثنيت، وقلت: إن شاء الله، فمن قال: إن شاء الله، بصوت لم يسمعه إلا هو، فإنها تطلق عليه قضاءً، ولكنه بينه وبين الله يجزئه، ويؤثر ديانة، ولا يؤثر قضاءً وحكماً.