قال رحمه الله: [وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر] (وسؤر الهرة) وهي: القط، ويستوي في ذلك ذكرانها وإناثها، والسؤر: الفضلة، واحد الآسار، وهذا السؤر صورته: أن تأتي الهرة وتشرب من إناء أو وعاء ثم تبقى فضلة، فهذه الفضلة يحكم بطهارتها؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي قتادة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصغى لها الإناء ثم قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) وهذا يدل على أنها طاهرة، إذ لو كانت نجسة لبين النبي صلى الله عليه وسلم نجاستها، وفيه تيسير ورحمة بالناس؛ لأن الهرة تخالطهم وتكون معهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام مشيراً لهذه العلة: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات).
ولذلك يقول العلماء: هي نجسة ولكن حكم بتخفيف الحكم فيها لمكان المشقة؛ وذلك بقوله: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) قالوا: إذ لو كانت طاهرة في الأصل لقال: إنها طاهرة، لكن كونه يقول: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) كأنه يقول: إن هذا فيه حرج وفيه مشقة، فخفف من أجل الحرج ومن أجل المشقة، وهذا مسلك بعض العلماء، ولذلك قالوا: كل ما كان في حكم الهرة فسؤره طاهر، حتى قالوا بالتخفيف في السباع فإذا طاف على الإنسان وكان معه، كما لو أنه ربى أسداً للصيد أو نمراً أو نحو ذلك من السباع وخالطه كثيراً، قالوا: يعفى عن فضلته وسؤره.
قال: (وما دونها في الخلقة) (دونها) يعني: أقل منها، وإنما قال: دونها؛ لأن القياس يأتي على ثلاثة أوجه: الأول: قياس الأعلى على الأدنى.
الثاني: وقياس الأدنى على الأعلى.
الثالث: وقياس المساوي.
هذه ثلاثة أحوال للقياس.
ضابط كونه أعلى أو أدنى أو مساويه هو: العلة، فإن كان الفرع الذي تقيسه أولى بالحكم من الأصل فهذا يسمى قياس أعلى، أي: أنك ألحقت المستحق للحكم أكثر مما ورد به النص، مثال ذلك: الله عز وجل يقول: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] نهى عن قول: (أف) فتقول: يحرم السب والشتم كما يحرم التأفف بجامع كون كل منهما أذية للوالدين، وقد تقول بصورة أخرى تنبه على كونه قياساً أعلى.
التأفف للوالدين حرام فسبهما أولى بالحرمة لما فيه من بالغ الضرر، أو بجامع الضرر في كلٍ، وهذا بالنسبة لما يكون أعلى، أو مساوياً: كأن تقيس ما مثل الهرة في الحجم والقدر والتطواف على الهرة.
أو دون: أي ما يكون متخلفاً فيه بعض أوصاف العلة، فيكون الأصل أولى بالحكم فيه من الفرع عكس الأول، فلو قست شيئاً علته أدون من علة الأصل، يعني: توجد فيه ولكنها أخف من علة الأصل فتقول: إن هذا قياس أدنى.
الشاهد: أنه قال: (وما دونها في الخلقة) وهذا من دقة المصنف، لأن الأصل لما قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) قالوا: إن هذا مبني على التطواف ولذلك يقولون: الأصل نجاسة السباع وما في حكم السباع مما يأكل الحشرات ويغتذي بها، فقال: هذا الأصل يقتضي المنع والحكم بالنجاسة، فإذا جئنا نقيس شيئاً على المرخص عليه فإننا نبحث عما هو دونه حتى يكون أبلغ في اللحوق، وأما إذا كان مثله فإنه يقوى رده إلى الأصل، وإذا كان أعلى منه فهو أولى أن يبقى على الأصل.
فالهرة سؤرها طاهر ويستثنى مما سبق مسألة ينبغي التنبيه عليها وهي: أن تراها قد أصابت نجساً ورأيته على فمها؛ فإن سؤرها نجس إذا تغير بذلك النجس، صورة ذلك: لو رأيتها اغتذت بميتة، ورأيت فضلة اللحم الذي نهشته أو النجاسة التي أصابتها على فمها، فجاءت إلى الإناء فشربت منه وأفضلت، وقد وجدت طعم ذلك التي أكلت أو شربت منه من النجس في الماء فحينئذٍ تحكم بكونه نجساً، وهذا التنجيس لعارض لا لأصل، لكن نبه العلماء رحمة الله عليهم على هذا، ولذلك قال بعض الفقهاء -كما هو موجود عند المالكية وغيرهم-: وإن رئيت على فمه عمل عليها، (وإن رئيت) يعني: رأيت النجاسة (على فمه) يعني: فم الهر أو السبع، (عمل عليها) يعني: حكم بحكمها إن أثرت في الماء فالماء نجس، وإن لم تؤثر فالماء طهور.