قال رحمه الله تعالى: [فإن عضلها ظلماً للافتداء، ولم يكن لزناها، أو نشوزها، أو تركها فرضاً ففعلت، أو خالعت الصغيرة والمجنونة، أو الأمة بغير إذن سيدها لم يصح الخلع] قوله: (فإن عضلها ظلماً للافتداء): عَضْلُها ظلماً استغلال للخلع، فالرجل يضيق على المرأة حتى تدفع له المهر ويتزوج بثانية، وهذا من أسوأ ما يكون من اللئام -أعاذنا الله وإياكم منهم- فإنهم أقوام يتذوقون النساء، فيصيبون شهوتهم -نسأل الله السلامة والعافية- كما ذكر بعض العلماء، وهذا موجود عند بعض الناس ممن لا يخاف الله ولا يتقيه، فيصيب المرأة، وبعد أن يعاشرها السنة والسنتين، أو يذهب ما يجد عندها من الحظوة والجمال، يضيق عليها لتفتدي، فإذا افتدت طالبها بالمال، وأخذ المال وتزوج ثانية، وصنع بها كصنيعه بالأولى، ومثل هذا إذا اطلع عليه القاضي يعزره، ويبطل خلعه إن كان ظالماً.
وتضييقه عليها أن يقتر عليها في الرزق، ويضيق عليها في خروجها، وفي أمورها وفي شؤونها، ويقطعها عن أهلها وقرابتها، ويصل الأمر إلى درجة أنهم لو جاءوا يزورونها -نسأل الله السلامة والعافية- منعها من ذلك، حتى تكره عشرته، فإذا كرهت عشرته وضاق بها الحال طلبت الخلع.
وهذا من أعظم ما يكون من الظلم والإضرار، قال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231]، فالله حذر من هذا الفعل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج في حق الضعيفين المرأة واليتيم)، فجعل المرأة في حقها كاليتيم، واليتيم ظلمه من أسوأ ما يكون، ولذلك يقولون: عقوبته معجلة غالباً، فظلم اليتيم عقوبته قريبة من ظالمه، والمرأة كذلك لا تبعد عنه، وهذا المشاهد والمجرب؛ لأنها ضعيفة وغالباً ما تسكت عن كثير من المظالم، فإذا أضرّ بها على هذا الوجه فإن الله سبحانه وتعالى ينتقم منه إن عاجلاً أو آجلاً.
فمثل هذه الأفعال التي تفعل من الأزواج لاستغلال الخلع حكم بعض العلماء -كما اختاره المصنف- أن الخلع في هذه الحالة لا يصح، وفي هذه الحالة إذا اطلع القاضي على أنه ظالم، وضيق عليها وأضر بها، والأمور التي فعلها أمور مضرة يوجب مثلها أن من المصلحة أن يفرق بينهما حكم بالفرقة، ورد المهر للمرأة؛ لأن مثله أهل أن يفرق بينه وبين زوجته، فيتحمل هو مسؤولية الفراق، ويرد المال إلى المرأة؛ لأن أخذ مال الخلع على هذا الوجه ظلم، فأبطل العلماء رحمهم الله هذا، ويلزم منه إبطال أخذ المال، فعلى هذا لا يجوز الخلع على هذا الوجه وهو من الإضرار.
والأمر مركب على مذهب الحنابلة؛ لأن الخلع عندهم فرقة، لكن من يحكم بكونه طلاقاً تطلق عليه امرأته، ويرد المال إلى المرأة، إذا ثبت عند القاضي.
قوله: (ولم يكن لزناها): لأن الله تعالى قال: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19]، فإذا كانت المرأة -والعياذ بالله- زانية فإنه يجوز لزوجها أن يضيق عليها حتى ترد عليه مهره، فترد عليه جميع ما أخذت، وتطالب برد المهر فقط، ولا تطالب بكلفة الزواج، ولا بمئونة الزواج، فمطالبتها بكلفة الزواج ومئونته لا يشك أنه من الظلم، وهذا لا نعرفه لا في كتاب الله، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن امرأة ثابت لما جاءت تخالع لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لـ ثابت كم هي كلفة زواجك؟ ومن المعلوم والمشاهد والمجرب أن الرجل يعقد على المرأة، وينشئ وليمة النكاح، فيأتيه الناس ويساعدونه بمال أضعاف ما دفع في الوليمة، فيأخذ من الناس المال، ثم يأتي ويأخذ من المرأة مئونة النكاح!! فهذا من أغرب ما يكون من الأقضية.
إن بعض هؤلاء يقضي بأن المرأة تطالب برد قيمة النكاح ومئونة النكاح، ويصرخ الرجل ويقول: خسرت في نكاحي مائة ألف، أو مائتين! ومن الذي قال لك: اخسر؟ فإن الشرع أمرك أن تولم بشاة، وأن تولم على قدر ما يتحقق به الإعلان، وكونك توسعت لجاهك ولمكانتك، فلا تتحمل المرأة ما كان من وليمة أخذت سمعتها، وأخذت حظها من الدنيا؛ لأن هذا شيء الزيادة فيه لأمر الدنيا، وإن كان للآخرة ثبت لك أجره، فبأي حق يستحق المعاوضة على هذا؟ فالشاهد: أن مطالبة النساء بمئونة النكاح لا شك أنه مخالف لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشك أنه من ظلم النساء، وهو يعيق عن الخلع، فإن المرأة إذا قيل لها: ادفعي مائة ألف، أو ادفعي أربعين ألفاً، أو خمسين ألفاً، فقد تكون امرأة لا دخل لها، وقد تكون بحالة في فقر، وزوجها ليس بذاك، فلا هي بلغت مقصود الشرع من دفع الضرر عنها، ولا تستطيع أن تدفع هذا المال، فهذا كله مما لا يحفظ له دليل في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى من اعتبر الخلع أن يتقي الله عز وجل، وألَّا يحكم بالخلع إلا على وفق ما ثبت في الكتاب والسنة، فالقاعدة عند العلماء: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنَزَّل منزلة العموم في المقال).
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لـ ثابت بن قيس: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ما استفصل منه: هل تكلفت في زواجك أو لم تتكلف؟ هل دعوت الناس؟ هل تحملت أو لم تتحمل؟ فهذا كله مما ليس في الكتاب، ولا في السنة أن تُلْزَم المرأة بمئونة النكاح.
قوله: (أو نشوزها): أي: إذا نشزت يجوز له أن يطالبها بالخلع.
قوله: (أو تركها فرضاً): أي: تركها فرضاً فرضه الله عليها، أن تترك الأمور الواجبة عليها في الشرع، وتتساهل في الواجبات، فيجوز له أن يضيِّق عليها فتخالعه.
(ففعلت) أي: خالعته.
فالتضييق إذا لم يكن لزناها، ولم يكن لنشوزها، ولم يكن لتركها فرضاً، فحينئذٍ يكون الزوج ظالماً، أما لو كان لزناها، أو لنشوزها، أو لتركها فرضاً، فإن التضييق من الزوج واقعٌ في موقعه، فيكون مشروعاً.
فالشاهد: أن المصنف فرَّق في التضييق إن صَدَر من الزوج من أجل الخُلْع، فإن ضيَّق على زوجته لأنها زانية أو أنها ناشزة أو أنها تترك فرائض الله جاز له ذلك التضييق، والعكس بالعكس.