قال رحمه الله: [ولا يزوج باقي الأولياء صغيرة دون تسع ولا صغيراً ولا كبيرة عاقلة ولا بنت تسعٍ إلا بإذنهما] قوله: (ولا يزوج باقي الأولياء) كالأخ الشقيق، فلو أن أخاً شقيقاً أراد أن يزوج أختاً له دون تسع لم يصح؛ لأن هذا خاص بالوالد، أو يزوج أخته دون البلوغ بدون رضاها، أو بكراً مكلفة دون رضاها لم يكن له، وإنما هذا خاص بالوالد، والعلة في هذا: أن في الوالد من الشفقة والرحمة ما ليس في غيره كما بيناه وقررناه، فالأمر في الوالد يختلف عن بقية الورثة وبقية الأولياء، والذي سيأتي من هؤلاء الذين ذكرهم المصنف هو في الحقيقة عكس ما تقدم، يعني: إذا أثبت أن الأمر للوالد فعكس هذه الجملة أن غير الوالد لا يزوج، والأمر في هذا واضح.
قال: [صغيرة دون تسع ولا صغيراً ولا كبيرة عاقلة] يعني: لا يزوج الصغيرة ولا يزوج الكبيرة العاقلة إلا بالإذن والرضا، فإن رضيت وأذنت فلا إشكال، وإن لم ترض ولم تأذن لا يصح، وليس له حق ولاية النظر عليها في هذا.
قال: [ولا بنت تسع إلا بإذنهما] يعني: إذا كانت البنت لها تسع سنين فلا يحق له أن يزوجها إلا إذا أذنت ورضيت، والغالب أن المرأة في التسع -خاصة في المناطق الحارة- تبلغ، وقد قدمنا هذا في باب الحيض، وذكرنا قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: إذا بلغت الصبية تسع سنين فهي امرأة، يعني: تتأهل لأن تكون امرأة ويأتيها الحيض.
قال: [إلا بإذنهما وهو صمات البكر ونطق الثيب] هناك جانبان لابد من التنبه لهما في الولاية على النكاح: الجانب الأول: يتعلق بالذكر، والجانب الثاني: يتعلق بالإناث، وإذا قلنا: الإناث، فنخص بالزوجة التي يراد إنكاحها وتزويجها، وإذا قلنا: الذكور، فمرادنا الأولياء وليس الزوج.
نحن نتكلم على مسألة تزويج المرأة، فعندنا مزوجة، وعندنا شخص يريد تزويجها، ومن حكمة الله عز وجل ومن حكمة الشريعة وكمال علمه سبحانه وتعالى أن جعل الرضا منقسماً بين الطرفين، والشريعة جاءت بالوسطية التي لا إفراط فيها ولا تفريط، فأعطى الرجال حقوقهم وأعطى النساء حقوقهن، ونريد أن نعرف كيف أخذت المرأة حقها؟ وكيف أخذ الرجل حقه؟ إذا علم طالب العلم حق الرجل وحق المرأة اتضحت له مسائل الباب في الولاية وفي الرضا؛ لأنه في بعض الأحيان تتداخل النصوص ويحصل شيء من الخلط فيها بحيث يصعب الفهم.
فعندنا إفراط وتفريط، فتارة تجد وجهة نظر تقول: النظر كله للرجل، يعني: الذي يلي عقد النكاح ويبرم عقد النكاح ويبت في عقد النكاح هو الرجل فقط، بحيث لا يكون للمرأة أي نظرة، هذه وجهة نظر، وتارة تجد في مقابلها وجهة نظر أخرى تقول: المرأة لها كل شيء، بحيث يمكن أن تأتي برجل ليس بأهل فتتزوج منه على رغم أوليائها حتى لو كان فيه ضرر عليهم.
والعدل أن نقول: للنساء ما لهن من الحقوق، وللرجال ما لهم من الحقوق، ونرجع إلى طبيعة حقوق النساء وطبيعة حقوق الرجال، فانظر رحمك الله إلى كمال هذه الشريعة، فالمرأة لها حقها من حيث الرغبة في الرجل؛ فإن للنساء نظرة، وهذه النظرة جبلية فطرية من ارتياحها للرجل وحبها لمعاشرته، فالشريعة أعطتها هذا الحب وهذا الميل القلبي الذي لا تملكه، فتنظر في الرجل فإن أعجبها وقبلته فالحمد لله، وإن لم يعجبها هل يفرض عليها فرضاً؟ وهل تكره على معاشرة شخص لا تريده؟ لا يمكن.
مسألة محبتها وكراهيتها ترجع إلى تقديرها، فإن كانت المرأة كرهت الرجل لدمامة في خِلقته فهذا شيء لا يستطيع الإنسان أن يفرض عليها فيه، فقد جاءت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يار سول الله! إني امرأة أكره الكفر بعد الإسلام -أنا امرأة أخشى أن أقع في معصية الله بعد طاعة الله- زوجي لا أحبه، قال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، وأزيده، فقال للرجل: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فالمرأة نفرت من زوجها لأسباب ذكرتها في الحديث، فكما أن الرجل يذهب ويختار المرأة التي يريدها، كذلك المرأة تختار الرجل الذي تريده، فإذا كان في الرجل أشياء معينة بينتها المرأة أو أن قلبها نفر منه، والمرأة صادقة ليست بمتلاعبة ولا متهتكة فرأيها يحترم ويقدر؛ لأنه شيء جعله الله فطرة في المرأة، فلا يمكن أن نأتي بالرجل وندخله عليها فجأة ونقول لها: هذا زوجكِ شئت أو أبيتِ، حاشا.
هذا لا يرضي الله عز وجل وليس من دين الله عز وجل.
إذاً: لابد أن نعطي المرأة حظ النظر، لكن إغراق النساء في هذا الحظ وتوسعهن ومبالغتهن يوجب تدخل الولي بقدر، فمثلاً: الأب عنده شفقة وعنده رحمة ويخاف على بنته أن تقع في الحرام، خاصة إذا كان هناك بواعث للفتنة، فجاء واختار لها زوجاً كفئاً كريماً جميع الصفات الحسنة متوفرة فيه، لكن جماله نسبي ليس بكامل، فقالت المرأة بنوع من الاستخفاف: لا أريده.
ولم تذكر السبب، حينئذٍ تكون ولاية الرجل؛ لأن الرجل أكمل عقلاً في هذا، ومن حقه إذا خاف على ابنته أنها إذا لم تتزوج من هذا أنها في الغد تقع في الحرام، أو تبقى عانسة.
إذاً: هناك ولاية للرجال وولاية للنساء، فالمرأة لها حقها، ولا تستغل هذا الحق لكي تدخل في أمور تسيء إلى قرابتها.
هذا حق النساء فما هو حق الرجال؟ من المعلوم أن المجتمعات يترابط بعضها ببعض ويتصل بعضها ببعض، والرجال أعرف بالرجال، فهناك أشياء إذا قُبلت أضرت بسمعة القرابة، فالرجل الشرير أو الفاسد أو الذي يكون منه الضرر، إذا تزوج هذه المرأة فإنه سيجر الضرر والعار على قرابتها، فليس من المعقول أن نرضخ لعاطفة المرأة على حساب أمة، وليس من المعقول أن نضر بجماعة على حساب فرد، وقواعد الشريعة تقول: الضرر يزال، فهذا النوع من الرجال يضر، مثل ما يقع مثلاً في بعض الأحيان بأن يكون الرجل معروفاً بفساده وسوء أخلاقه، فمثل هذا -أعاذنا الله وإياكم- لو أنه تزوج امرأة أُناس محافظين ولهم مكانتهم أضر بهم وأضر بسمعتهم وأضر بمكانتهم، فلو جاءت المرأة تقول: أريد أن أتزوج بفلان، وقال الولي: لا.
فانظر إلى قول المرأة، وانظر إلى قول الرجل، وانظر إلى الضرر الذي يلحق المرأة، والضرر الذي يلحق الرجل؛ فتجد ما يلي: تجد أن الرجل لو لم نوافق عليه فهناك البديل، والمرأة إذا منع عنها الرجل فإنها قد تقع في الحرام، وهذا في حالة عدم وجود البديل، فهذا الضرر يمكن تلافيه، لكن لو أن هذا الرجل تزوج من هذه الجماعة لأضر بهم ولألحق بهم في بعض الأحيان عاراً لا ينمحي عنهم، فهذا الضرر لا يمكن إزالته، وخاصة أضرار العار التي تلحق بها من السب والنقيصة والضرر، أو يكون رجلاً شريراً كثير الاعتداء على الناس، فكل يوم يقال: هذا زوج ابنتكم، أبو أولادكم، ويتضرر أولادها، والشريعة لم تأت بالزواج فقط، بل جاءت بالنظر إلى مصالح ومفاسد قريبة وبعيدة، وأضرار خاصة وعامة، ومصالح خاصة وعامة.
فلابد من النظر بين الجانبين.
فالخلط يقع في المسائل الفقهية والاجتهادات والأقوال وشروح الأحاديث، فهناك أحاديث ليس المراد بها إذن المرأة بإطلاق، وليس المراد ولاية الرجال بإطلاق، وإنما المراد أن يعدل كل واحد ويتقي الله في حقه وما له وما عليه، فالمرأة تتقي الله في أهلها وقرابتها، فلا تقول: زوجوني من فلان، وإذا لم تزوجوني من فلان فلن أتزوج، وإذا لم تزوجوني من فلان فلن أدخل بيت الزوجية أبداً، هذه كلها أمور مبنية على الإساءة والإضرار، والشريعة لا تجيز هذا، ولو قالت هذا الكلام فليس من حقها، ومن حق الأولياء إذا خافوا عليها الحرام والوقوع فيه أو خافوا عليها أن يلحقوها بزوج كفء كريم ويزوجونها منه.
إذاً لابد من الجانبين: جانب الرجل وجانب المرأة، ولما كانت هذه القاعدة معروفة اعتنى العلماء بمسألة الرضا وسيتبعونها فيما بعد بمسألة الولاية على النساء في النكاح.
فبين رحمه الله مسألة رضا المرأة، وأن النكاح لا يصح بدون رضاها.
والمرأة -خاصة إذا كانت بكراً- إذا زُوجت من رجل لا ترغبه أو من رجل فيه نقص يؤذيها أو يضر بها أو ينفرها، فإن هذا من أعظم الإضرار، ومن أعظم الظلم أن لا يتقي الولي في موليته، فيحابي ويجامل ويرضخ لأمور معينة يتنازل بها عن حق الولاية الذي فرضه الله عز وجل عليه من حسن النظر لموليته.
قال رحمه الله: [إلا بإذنهما وهو صمات البكر ونطق الثيب] (إلا بإذنهما) فلابد من إذن الزوج البالغ وإذن الزوجة البالغة، ورضا الزوج البالغ ورضا الزوجة البالغة، والإذن بالنسبة للمرأة يختلف باختلاف البكر والثيب، فالبكر تُستأذن، فيقال لها: يا فلانة! إن فلاناً يرغب بك، يا فلانة! إن فلاناً تقدم للزواج منكِ، فإذا كانت لا تريده قالت: لا أريده، وإذا سكتت كان صماتها وسكوتها قرينة دالة على الإذن؛ وهذا نوع من التيسير من الله عز وجل؛ لأن البكر تستحي، لكن إذا كان الصمات عن خوف وإكراه فوجوده وعدمه على حدٍ سواء، فالمقصود بالصمات هو صمات الحياء، وهو الصمات الذي تستحي فيه من بيان الموافقة.
أما إذا كان صمات خوفٍ بأن تخشى أن تزعج والدها فذهبت إلى أمها وقالت: لا أريده، فعلى والدها أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الله سائله عن هذه الأمانة، فإنها قد تبقى عمرها عند هذا الرجل، فخير له ألا يصاب بدعوات السوء، فكم من امرأة والعياذ بالله ظلمها والدها فدعت عليه، فمثل هذا يتقى، فعلى الإنسان أن يتقي ربه ما أمكنه في حقوق الأبناء، وبخاصة البنت، فإن ظلم الوالد لها من أعظم الظلم، فإنها إذا ظلمت من والدها واضطهدت قد تسكت وقد تصبر، فتصبح بين نارين؛ نار العذاب الذي تجده من هذا الزوج الذي ليس بأهل، ونار والدها أن تخالفه، ولذلك ينبغي للوالد أن يقدر هذه المشاعر وأن يرحمها، والله سبحانه وتعالى لاشك أنه سيعوضها خيراً، لكن المراد بيان الحكم الشرعي من حيث الأصل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.