قال رحمه الله: [إلا البالغ المعتوه] وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم الرضا في حق النساء، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (البكر تستأذن وإذنها صُماتها، والثيب أحق بنفسها من وليها -وفي رواية: والثيب تستأمر، يعني: لها أمر نفسها-) فجعل للمرأة حظاً في النظر، وهذا إن شاء الله سنبينه في الولاية على عقد النكاح.
قوله رحمه الله: (إلا البالغ المعتوه) هناك نوعان من الناس: نوع توفرت فيه الأهلية للقيام بالعقود، فهذا النوع يلي نفسه كالرجل البالغ العاقل، فله أن يزوج نفسه ويتزوج من شاء، ولكن لو فسدت أو انعدمت الشروط المعتبرة للأهلية في ولاية عقد النكاح أو في النكاح، كرجل بالغ، يعني: بلغ ولكنه معتوه، والعته: نوع من الجنون وهو يفسد شرط التكليف، ليس بمكلف وليس عنده الأهلية لكي ينظر مصلحة نفسه، فالمعتوه الأخرق حتى ولو كان عنده نوع من الخرق ليس بجنون كامل لكنه نوع من نقص في العقل بحيث لا يحسن النظر لمصلحة نفسه، فهذا النوع من الناس الشريعة تجعل له قريباً يليه، وهذا ما يسمى بالولاية، وهذا النوع من الولاية يسمى: الولاية الخاصة، والولاية الخاصة: هي أن يتولى المسلم النظر في أمر خاص لأخيه المسلم؛ لأن الولاية نوعان: ولاية عامة وولاية خاصة، وهذا نوع من الولايات الخاصة، فالبالغ المعتوه هو بالغ -والبالغ ينظر في مصلحة نفسه- وقد بلغ سن التكليف لكن كونه معتوهاً، يعني: عنده نقص في العقل والإدراك، وعنده نقص في التمييز، فمثل هذا يولى عليه، فوليه يكون من قرابته -كما سنبينه في أولياء المرأة- فوالده يمكن أن يعقد عنه، وأيضاً قريبه، كأخيه الشقيق، وابن أخيه الشقيق، وأخيه لأب، وابن أخيه لأب، وعمه الشقيق، وابن عمه الشقيق، وعمه لأب، وابن عمه لأب ونحو ذلك فهؤلاء يتولون النظر له، وإنما قلنا من قرابته؛ لأن القريب يعطف على قريبه، والإنسان مع قرابته يحس أن عيب القريب عيب له، وأن الضرر على القريب كالضرر عليه، فلذلك جعل الله أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، وجعل القرابة يلي بعضهم النظر في مصالح البعض رحمة من الله عز وجل ولطفاً بعباده.
[إلا البالغ المعتوه] إلا: حرف استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فهو يقول: [رضاهما -رضا الزوجين- إلا البالغ المعتوه] أي: البالغ المعتوه ليس لنفسه أن ينظر وإنما ينظر له وليه ومن يلي مصالحه، وجرت العادة أن أحد أقرباء قاصري العقل والنظر هم الذين يتولون مصالحه.
قال: [والمجنون] تقدم معنا ضابطه، وبعض العلماء يقول: المجنون لا يلي عقد النكاح، وفي الواقع من العلماء من يفصل بين الجنون المستمر والجنون المتقطع، فيرى أنه إذا كان جنونه متقطعاً يمكن أن يلي عقد النكاح -يعني: ممكن أن يزوج نفسه في حال الإفاقة- وفائدة الخلاف: أنه إذا رُفع إلى القاضي رجل يجن أحياناً وقد زوج نفسه حال الإفاقة، فعلى القول الذي لا يعتبر الجنون مطلقاً سواءً متقطعاً أو مستمراً فإنه يلغي النكاح ويرد الأمر إلى أوليائه والعكس بالعكس، وعلى القول الثاني: يصح العقد في حال الإفاقة ولا يصح في حال وجود العذر وهذا أقوى.
يقول المصنف: [والصغير والبكر ولو مكلفة، لا الثيب، فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم] قوله: [والصغير] الصغر هو الصبا، والصبا دون البلوغ، والصبي هو: الذي لم يبلغ الحلم، والحلم طور وحالة وهيئة، ينتقل فيها الإنسان من طور الصبا إلى طور العقل والإدراك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} [النور:58] أي: لم يبلغوا سن العقل.
فبالنسبة للصغير يمكن أن يزوجه والده سواءً رضي أو لم يرضى، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نكح عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست، ودخل بها وهي بنت تسع سنين، فإن عائشة رضي الله عنها فوجئت بأمها ومعها النسوة قد أخذنها إلى الماشطة ولم تشعر إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل عليها.
فإذاً: لم يكن لديها علم بالمسألة، وما استشيرت ولا أخذ رأيها، قد يقول قائل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن فقه المسألة: أن الوالد عنده من العطف والشفقة والرحمة ما يبعد معه أن يدخل الضرر على ولده، ويدل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث فاطمة: (إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) فجعلها كالقطعة منه، والقطعة من الشيء كالشيء.
فكما أن الوالد يلي حظ نفسه، كذلك يلي حظ أولاده الصغار ذكوراً كانوا أو إناثاً.
صورة المسألة: لو قال رجل عنده بنت صغيرة ورجل آخر عنده ابن صغير مثل ما يقع بين أولاد العم، يقول: بنتي لابنك فلان، فيقول: قبلت، إذاً حدث زواج، وإذا تم بشروطه ودفع المهر ثم العقد وصارا زوجين من حيث الأصل، ولم نسأل هل هما راضيان أو غير راضيين؟ لكن في الأصل تم العقد، يعني: يمكن للأب أن يزوج بنته ولو كانت بنت تسع سنين.
فبما دون التسع سنوات من ست سنوات سبع سنوات ثمان سنوات فالأب له ولاية قوية عليهم، والأب غالباً لا يسعى في الضرر على ولده، ولذلك قالوا: لو قتل الوالد ولده لم يقتل به في قول طائفة من العلماء، قالوا: لأنه يبعد أن يتخطى الوالد حاجز الرحمة والحنان والشفقة التي ملأ الله بها قلبه فيقتل ابنه، ولذلك قالوا: لا يقاد به؛ لأن الغالب أنه لا يضربه إلا وهو يريد الأدب له؛ ولأنه فيه شبهة الأدب، والحدود تدرأ بالشبهات.
فالشاهد: كمال شفقة الوالد على ولده، وإذا ثبت هذا فإن الوالد يزوج ولده الصغير ويزوج بنته الصغيرة إذا كانت دون البلوغ.
قال: [والبكر ولو مكلفة] البكر ضد الثيب، وقوله: (ولو مكلفة) ولو إشارة إلى خلاف أي: ولو كانت مكلفة، فإذا بلغت سن التكليف فإنه في هذه الحالة يجوز أن يزوجها والدها بدون رضاها كما ذكرنا لقوة ولاية الوالد؛ لأن البكر في الغالب تجهل الرجال، وكانت المرأة يسمونها: ذات الخدر، كما في الصحيحين من حديث أم عطية: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحيض) فكانت المرأة (ذات خدر) يعني: في داخل خدرها لا تعلم ما هي الحياة، فكان والدها هو الذي يلي أمورها، فإذا كانت بكراً فالغالب أنها تجهل أمور الناس، وتجهل الرجال، فلو أن والدها زوجها بدون علمها وبدون رضاها فالأمر في الوالد أخف من غيره من بقية الأولياء كما سيأتي إن شاء الله.
وقوله: (لا الثيب) الثيب نص النبي صلى الله عليه وسلم عليها فقال: (والثيب أحق بنفسها من وليها) والفرق بينهما واضح، فإن المرأة الثيب عاشرت الرجال وابتليت بالأخذ والعطاء مع زوجها السابق وانفصلت عنه، فهذا الانفصال ما وقع إلا بعد حياة زوجية، ولذلك قالوا: إنه لابد من رضا الثيب وهي أحق بنفسها من وليها ولو كان أباً.
قال: [فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم] وصي الأب في النكاح هو الشخص الذي يقول له الوالد: زوج بنتي فلانة، ويحدد له، كأن يقول: زوج بنتي فلانة من فلان، فهذا وكيل وفيه نوع من الوصاية، أو يطلق له ويقول: انظر لابنتي الأصلح فزوجها منه، فحينئذٍ يكون وصياً على بناته لكن في خصوص أمر النكاح، والأصل في هذا عند من يقول بهذا القول مبني على قاعدة شرعية مأخوذة من النصوص الشرعية: أن الفرع تابع لأصله وراجع إلى أصله.
فوصي الوالد منزل منزلة الأب؛ لأنه وصاه، فله الحق كوالده، وبعض العلماء يمنع من هذا ويقول: إذا عين له وحدد فيجوز ويكون الأمر كأنه للوالد، أما لو أطلق له فلا.
قال: [كالسيد مع إمائه وعبده الصغير] السيد يزوج إماءه لمن شاء وبدون إذنهن؛ لأنه يملك الرقبة بنص الشرع، وهكذا بالنسبة لمواليه الذكور الصغار دون البالغين.