قال رحمه الله: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم].
قوله: (تصيح وصية المسلم) أي: أنها معتبرة شرعاً، والشيء الصحيح هو الذي تترتب عليه الآثار الشرعية المعتبرة، فتصح وصية المسلم إلى كل مسلم، والوصية إما أن تكون من مسلم، وإما أن تكون من كافر.
والكلام هنا إذا كانت الوصية من مسلم، فتصح الوصية من المسلم إلى كل مسلم، فدل على أنه لا يجوز للمسلم أن ينصب الكافر على أمواله، ولا أن ينصب الكافر لتنفيذ وصاياه أياً كانت هذه الوصايا.
أما كون الكافر لا يصلح للولاية: فهذا مبني على أصل شرعي دل عليه دليل الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، فأخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يسلط الكافر على المشرك، فدل على أن الكافر لا تكون له ولاية على المسلم، وهذا خبر بمعنى الإنشاء.
وكذلك أخبر الله عز وجل عن صفات في الكفار لا يمكن أن تتحقق بمثلها -وبسبب وجودها- المصالح التي تطلب من الوصايا، ولا يمكن أن تتحقق المفاسد التي يراد درؤها بالوصية بأمثال هؤلاء، فقال تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10]، فأخبر سبحانه وتعالى الذي وصف نفسه بأنه أصدق القائلين، وأصدق حديثاً ولا أصدق منه قيلاً، وهو القائل: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} [النساء:45]-أخبر عن هذا العدو بأنه لا يرقب في مؤمن إلَّاً ولا ذمة، و (الإلّ) هو القرابة، تقول: آل فلان، أي: قريبه من جهة النسب، و (والذمة): العهد، فهم ليسوا بحافظين لحق القرابة، وليسوا بحافظين للعهد والذمة التي بينهم وبين المسلمين في غالب أحوالهم، والله عز وجل أصدق حديثاً وأصدق قيلاً.
فأخبر سبحانه أنهم لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة، فالكافر ولو كان قريباً، فإنه لا يرعى حق القرابة في المسلم.
ومن هنا وجب إقصاؤهم وإبعادهم عن هذا، ولذلك حينما كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حينما كان بالشام، ولى كاتباً نصرانياً عنده يكتب، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) وكتب إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].
فقوله تعالى: (لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي: أنهم يسعون في أذية المسلم إلى درجة قد يفقد الإنسان عقله من كثرة ما يرى من أذيتهم وإضرارهم به، فقد يصل إلى درجة الخبل، (لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي: أنهم يبذلون جهدهم لأذيتكم والإضرار بكم، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم.
(وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) الود: هو خالص الحب، أي أنهم يحبون من صميم قلوبهم عنتكم، و (ما): مصدرية بمعنى عنتكم وتعبكم وشقاءكم، هذا هو الذي يودونه ويطلبونه، فدلت هذه الآية الكريمة على أنه لا مصلحة في ولاية الكافر على المسلم.
وكذلك أيضاً دلت السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عهد بأمر من أمور المسلمين إلى كافر ألبتة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام على السنن الذي أقامه الله عز وجل عليه، من حفظ المسلمين، وإبعادهم عن أذية أو تسلط الكافرين عليهم.
فلا يجوز تولية الكافر على المسلم في الوصية، والإجماع منعقد على هذا، ولذلك حكى في الشرح الكبير بقوله: (بغير خلاف)، أي: لا تجوز ولاية أو توصية الوصي الكافر على الأيتام المسلمين، أو على حقوق المسلم من بعده، أو على وصيته من بعده بغير خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.
وقوله: (إلى كل مسلم) فيه عموم، فـ (كل) عند العلماء من ألفاظ العموم، فلما قال المصنف رحمه الله: (إلى كل مسلم) معناه: أنه يشمل المسلمين ذكوراً وإناثاً، فيجوز أن يعهد بوصيته إلى رجل توفرت فيه الشروط ليقوم بتنفيذ وصاياه، ويجوز أن ينصب المرأة، وتنصيب المرأة في تنفيذ الوصايا ورعاية الأيتام ونحو ذلك من الأمور التي تصح فيها ولاية النساء، فهو أمر مشروع، ولذلك قال جمهرة السلف رحمهم الله -من الصحابة والتابعين- بهذا القول؛ أنه يجوز أن يعهد الرجل بوصيته إلى المرأة لكي تنفذها، ويدل على ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه عهد إلى أم المؤمنين حفصة بنته، فقامت على وقفه الذي كان بخيبر، فكانت وصية له من بعده رضي الله عن الجميع.
وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة متوافرون، فهي سنة من سنن الخلفاء الراشدين، ولم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان هذا بمثابة الإجماع السكوتي، ولذلك اتفق الأئمة الأربعة على جواز تنصيب المرأة من أجل القيام على مصالح الوصايا بتنفيذها، فيعهد إليها زوجها، أو أبوها، أو أخوها، فإن من النساء من فيهن من رجاحة العقل وحسن النظر وحسن التدبير ما يكون في ولايتها الخير الكثير، فقد تكون أم أيتامه أولى برعاية أيتامه، والشفقة عليهم، وحسن النظر في مصالحهم، فإذا وجدها بهذه الصفة عهد إليها.
فإذا أحس أن هناك خوفاً يخشاه من جهة تحقيق المصالح، من ناحية أنها لا تستطيع أن تخالط الرجال في الأمور التي يحتاج إليها من مصالح الأيتام، عهد إلى أخيها معها، وهو خال أولاده مثلاً، أو إلى من يراهم من قرابته ليكون مساعداً أو معيناً لها.
فالشاهد: أن ولاية المرأة على تنفيذ الوصايا أمر يقول به السواد الأعظم من علماء هذه الأمة رحمهم الله، من السلف والخلف، وقد خالف في هذه المسألة عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس رحمه الله، وقال: (لا يجوز أن تلي المرأة تنفيذ الوصايا)، وهذا قول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، أنه يجوز أن يعهد الرجل بتنفيذ وصاياه إلى المرأة، ولا بأس في ذلك.