يقول رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالوصايا التي يُذكر فيها النصيب، أو يذكر فيها الجزء، ويتبع هذا ذكر الوصايا بالسهم وبالشيء المجهول.
وإذا وَصَّى الإنسان فإما أن يذكر قدراً معيناً من التركة بالنسبة، كقوله: أعطوا فلاناً نصف مالي، أو أعطوا فلاناً بعد موتي ثلث مالي، فإذا حدد بالنسبة ففي هذه الحالة تنقسم المسألة إلى ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يعطيه الثلث.
الصورة الثانية: أن يعطيه أكثر من الثلث.
الصورة الثالثة: أن يعطيه أقل من الثلث.
فإذا أعطاه الثلث فأقل فبالإجماع أنه تنفذ وصيته على التفصيل الذي قدمناه، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير)، فأعطى المريض مرض الموت أن يتصرف في ثلث ماله فيعطيه من شاء.
إذاً: النص يدل على أن من حقك أن توصي بثلث مالك وصية شرعية معتبرة، وكذلك دل النص على أن ما دون الثلث يجوز للإنسان أن يوصي به.
الصورة الثالثة: أن تكون وصيته أكثر من الثلث، فقد ذكرنا أنها لا تجوز، وأنه ليس من حق الميت أن يُوصِي بأكثر من الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع سعداً من ذلك.
وبيّنا إجماع العلماء رحمهم الله على هذا، وقد اختلف العلماء إذا أوصى بأكثر من الثلث فأجاز الورثة ورضوا: هل هي عطية مبتدئة أو عطية تنفيذية؟ ثم ذكرنا خلاف العلماء والثمرة المتعلقة بهذا الخلاف.
إذاً: مسألة أن يُحدد نسبة معينة من المال كله لا إشكال فيها.
الحالة الثانية: أن يذكر نصيباً أو جزءاً أو حظاً، فإذا أعطى مثل نصيب الوارث فقال: أَعطوا خال أولادي مثل محمد، أو أعطوا خال أولادي مثل أخته، فإذا حدَّد نصيب الموصَى إليه بنصيب وارث لم يخل الورثة من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون نصيب الورثة مستوياً، فيأخذ كلٌ منهم مثلما يأخذ الآخر، مثاله: لو تُوفي رجل عن ابنين ليس له غيرهما، فحينئذٍ المال يُقسم بينهما بالسوية، فإذا قال: أعطوا فلاناً -عم أولادي، أو خال أولادي- مثل نصيب أحدهم؛ فحينئذٍ لا إشكال أن المال يُقسَم بين الجميع على حد سواء، وكأنه ابن ذكر دخل بينهم.
الحالة الثانية: أن يكون النصيب مختلفاً، فيقول: أعطوا خال أبنائي مثلما تأخذه أخته، فحينئذٍ الذي تأخذه الزوجة هو الثمن، ولو توفي وترك زوجة وثلاثة أولاد أبناء ذكور، ففي هذه الحالة تجعل المسألة من ثمانية، فتعطى الزوجة الثمن، ويعطى كل واحد من الأبناء ثمنين، فتصبح المسألة من سبعة، ثم يدخل هذا الخال معهم فتصبح المسألة من ثمانية.
فإذا اختلفت الأنصبة بين الورثة فإننا في هذه الحالة ننظر إلى الشخص الذي عيّنه، ونضيف سهم الشخص الذي أدخله من غير الوارثين في الوارثين بذلك السهم، مضافاً إلى أصل المسألة، كما سيأتي -إن شاء الله- بيانه وشرحه.
إذاً: اتفقت أنصبة الورثة، فيكون كواحدٍ منهم، وإذا اختلفت فتعطيه سهم من سَمّى من الورثة -كالزوجة ونحوها- وتدخله في المسألة حتى ولو عالت المسألة، وسيأتي -إن شاء الله- توضيح هذه الأمثلة.
وإذا أبهم وقال: أعطوا خال أولادي أو عمهم مثل نصيب وارث، ولم يحدد الأقل ولا الأكثر، والورثة مختلفون، فهل نعطيه نصيب الأكثر أو نعطيه نصيب الأقل؟ جمهرة أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة على أنه يُعطى مثل نصيب أقلِّهم؛ لأنه هو اليقين الذي يجب صرفه إليه، ولا يُعطى مثل نصيب الأكثر.
أما لو قال: أعطوه جزءاً من مالي، أو شيئاً من مالي، فحينئذٍ نقول للورثة: أعطوه أي شيء ترضاه أنفسكم، فأقل ما يصدُق عليه أنه مال إذا أعطوه إياه فقد نفذَت الوصية وتمت؛ لأنه قال: أعطوه شيئاً، والشيء يصدق على القليل والكثير، فكل ما طابت به أنفس الورثة فإنه هو المجزئ تنفيذاً لهذه الوصية.
وبقيت مسألة أخيرة وهي: إذا قال: أعطوا فلاناً سهماً من مالي، فبعض العلماء يقول: نعطيه أقل نصيب من الورثة، وهذا قول اختاره الإمام الشافعي رحمه الله وطائفة من أهل العلم.
وبعض العلماء يقول: نعطيه سدس المال؛ لأن السهم في كتاب الله عز وجل -كما هو معلوم، وكما تقدم معنا في كتاب الجهاد وغيره- هو السدس، وهذا هو الذي يكون نصيباً له إذا عبّر الميت بالسهم.
وهذا القول أفتى به علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وقضى به إياس بن معاوية القاضي المشهور، واختاره جمع من الأئمة رحمهم الله.
هذا حاصل ما يذكر في الأنصبة والأجزاء، وسيفصل المؤلف رحمه الله في هذه المسائل في هذا الباب.