وأياً ما كان فالدين جائز ومشروع، فهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد استدان، وإن كان بعض العلماء قد اعتذر فقال: رسول الأمة صلى الله عليه وسلم نِيطت به حقوق، والناس كلهم يعوِّلون عليه صلى الله عليه وسلم، وذلك مثلما يوجد في الفضلاء والكبراء، كشيخ القبيلة أو أميرها، فغالباً أنه يدخل في الشفاعات، ويواسي المعدومين والمحتاجين، فمثل هؤلاء غالباً يقعون في الدين؛ لكن لهم من الله عز وجل المعونة؛ لأنهم أخذوا الدنيا معونة على الدِّيْن، فما دام أنهم لا يريدون بها جاهاً ولا سمعة ولا فخراً، وإنما يفعلون ذلك رحمة بالناس، فمن رحِم حريٌ أن يرحمه الله عز وجل، وأن يبارك له في رزقه، وأن ييسر له من أمره.
ولقد جعل الله عز وجل للغارمين الذين يتحملون الديون، وهم رؤساء العشائر من الكبار الذين لهم مكانة، وأهل العلم وأهل الفضل الذين تأتيهم حوائج الناس دائماً، وكذلك أهل الكرم، فهؤلاء لا يستطيعون أن يعتذروا، والكريم في بعض الأحيان يفضل أن يموت ولا أن يعتذر لصاحب الحاجة، وهذا شيء وضعه الله في القلوب، وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (ثلاثة لهم علي فضل، وذكر منهم: رجل نزلت به حاجة فاختارني من بين الناس)، أي: جاء إليّ من بين الناس ووقف عليّ وسألني هذه الحاجة.
فلا شك أنه لم يوجد ولن يوجد رجل عُرف برحمة الناس -وكان ذلك بحسن نية- فضاق عليه الأمر إلا ووسعه الله عز وجل، وهذا شيء لا يُخطر على بال، وقد رأينا من العلماء والفضلاء وأهل الفضل العجب في هذا.
ولذلك فلن تجد إنساناً كريم النفس يستدين إلا تكفّل الله عز وجل برزقه، فنحن حينما ذكرنا مسألة الدين، قد يكون بعض الناس فيه رحمة، وأفضل ما يكون الكرم والإحسان في رجل عطوفٍ شفوق رحيمٍ بذوي رحمه، فتجده دائماً ينظر إلى أخواته المحتاجات وإخوانه وقرابته المحتاجين، وينظر إلى العجزة وكبار السن من قرابته؛ فيستدين لهم ويتحمل عنهم؛ فإن الله سبحانه وتعالى يجعل لمثل هذا من الفرج ما لم يخطر له على بال.
وهذا رجل ضاقت عليه الأرض بما رحبت في دين أهمه وأغمه -وكان من أفضل الناس في جماعته إحساناً وكرماً، وكان من حفاظ كتاب الله عز وجل، ومن الصالحين الأخيار رحمه الله، نحسبه ولا نزكي على الله أحداً- يقول: إنه ضاق عليه الأمر في مبلغ كبير، حتى وقف عليه صاحب المبلغ وآذاه وسبّه وشتمه؛ لأنه تأخر عليه، وقد وعده أكثر من مرة أن يفي فلم يستطع، يقول: فنزلت إلى بيت الله، فطفت فيه -وقد كان رجلاً معروفاً بمواساة المحتاجين، وهذا شيء أدركته عليه، وقد كان من أعجب ما رأيت من الرجال، تجد بيته بيت الأيتام والأرامل والمحتاجين، لا يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت من صلاحه رحمه الله- يقول: وأنزلت حاجتي بالله سبحانه وتعالى، فوالله إني عند المقام أصلِّي ركعتي الطواف، وإذا برجل ثري غني موفَّق جاء وصلى بجواري، قال: فسلّم عليّ وتبسم في وجهي وناولني كيساً، فإذا فيه ثلاثة أضعاف المبلغ الذي أردته!! فمن أنزل حاجته بالله عز وجل فإن الله لا يُخيِّبه، وما من أحد أحسن إلى الناس وضيّع الله إحسانه أبداً، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
ومن غريب ما رأيت في هذا: أن الوالد رحمه الله كان لا يمسك المال، ولا يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت، وهذا شيء شهدته ورأيته فيه رحمه الله، وأشهد أمام الله أني رأيت فيه من الكرم والإحسان إلى الضعفة والمساكين ما الله به عليم، فمما حدث: أنه جاء في مرض موته رحمه الله، وكان عندنا عمال قد احتاجوا إلى مبلغ من المال، وقد كان رحمه الله يعطي الأجير أجره قبل نهاية الشهر، وقد كانت وفاته رحمه الله في آخر شهر جمادى -أي: قرابة الرابع والعشرين- فاحتاج العمال إلى المال، فجئت إليه وقلت له: إنهم يحتاجون إلى مبلغ كذا وكذا، وكان هذا بعد صلاة العصر في اليوم الذي سبق وفاته، فتألم وتغيّر وجهه، وقال: ليس عندي الآن شيء، لكني أرجو من الله ألا يُضيق عليّ أمراً إلا وسّعه.
والله ما زاد على هذه الكلمة، وأشهد بالله العظيم أنه ما إن انتهى من الكلمة إلا والباب يُقرع، فإذا بأحد أبناء العم من القرابة جاء لزيارة الوالد، وقد كان عليه دين لوالدي -وقد توفي والدي وله على الناس ما لا يقل عن ثلاثة ملايين، وما وقفنا على أحد نسأله ديناً للوالد، ولا نعلم ذلك أبداً من قبل، وفي آخر حياته كان يقول له بعض الناس: ألك حقوق على الناس؟ فيقول: حياتي كلها ما وقفت على رجل أقول له: أدِّ ديني، أبعد أن شابت لحيتي وابيض شعري أَفْعَل ذلك؟ فالشاهد: أنه جاء هذا القريب -انظر إلى تقدير الله عز وجل- ولو واجه الوالد لما قبل منه المال، لكن الوالد كان مريضاً، فأدخلته في غرفة الضيوف، فجاء وقال لي: أُريد أن أسلم على الوالد -وكان مريضاً جداً إذ كانت عليه الحمى رحمه الله، وذلك في اليوم الذي سَبق وفاته- فقلت له: لا يستطيع الآن أن يقابلك، ولو أنك عدت بعد العشاء أو في وقت آخر، فقال لي: سلم عليه وأعطه هذه الرسالة، وكنت لا أدري ما الذي بداخلها -انظر إلى تقدير الله عز وجل- فلو أنه جاء إلى الوالد وأعطاه المبلغ لغضب عليه ورفض قبوله، وأنا أعرف أنه إذا أعان أحداً فلا يأخذ منه بعد ذلك ما أعطاه إياه، ولو وسَّع الله عليه، رحمة الله عليه- فالشاهد: أنه أَعطاني هذا الظرف، وأُقسم بالله العظيم أَن المبلغ الذي فيه هو راتب العمال الثلاثة، لا يزيد ولا ينقص، فجلست مع الوالد وقلت له: فلان يسلِّم عليك، ويقول: هذه الأمانة التي أخذها منك، فتغير وجهه وقال: أمانة ماذا؟ ففتحتها فإذا فيها المبلغ الذي يعادل ألفين وأربع مائة، وهي تُعادل حقوق الثلاثة العمال.
وهذا من أعجب ما رأيت؛ لأن كلمته لما قال: أرجو من الله ألا يضيق عليَّ شيئاً إلا وسّعه، فالدين إذا لم يَسد به حوائج المحتاجين، ويواسي به المكروبين، ويقف به مع الضعفة والمحتاجين، فلاشك أن الأولى الابتعاد عنه ما لم يضطر الإنسان إلى ذلك.
وأما في هذا الزمان فلا شك أن الأمر أضيق، فقد كان أهل الفضل وأهل الكرم وأهل المال -من قبل- يحبون أهل العلم وطلاب العلم، ويواسونهم، لكن اليوم قلَّ أن تجد من يُكرم أهل العلم، وقل أن تجد من يقف عليه طالب العلم في حاجة لأحد إلا أذله وأهانه، ولاشك أن الله يأجُر طالب العلم على هذا، لكن قد تكون النفس عزيزة، فتربأ بالإنسان أن يقف هذا الموقف مخافة أن يكون في ذلك تبعة عليه أمام الله سبحانه وتعالى.
فقد تغير الزمان وفسد، إلا من رحم ربي، وإن كان -والحمد لله- لا يزال هناك بعض أهل الخير، لكن الأمور قد تغيرت، وقد كان أهل العلم معروفين بهذا، وقصة الأوزاعي في ذلك مشهورة، كل هذا تحملوا فيه حقوق الناس، وأياً ما كان فالإنسان عليه أن يبتعد عن الدين ما لم يحتج إليه.
وقد كانت أم المؤمنين ميمونة رضي الله تتدين وتستدين كثيراً، فقيل لها في ذلك، فقالت: ما أترك الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، فكانت تعول على أن الله لا يخيبها، ولم يخيبها ربها سبحانه، فقد قُضيت ديونها، وكُفيت حاجتها، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يغنينا من فضله، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه.
ولقد بيّن المصنف رحمه الله أنه يُبدأ بالدين وبالحقوق الواجبة، وينبغي على طالب العلم أن ينتبه إلى أن المسألة التي ذكرناها حينما قلنا: أن يكون الذي وصَّى به من الواجبات، أو يكون من المستحبّات، بمعنى: أن يكون الدين ضمن الوصية، فيجعل في وصيته من الثلث، كأن يقول: اقضوا ديني من الثلث، وحجوا عني من الثلث، وتصدقوا بكذا وكذا من الثلث، فلما جئنا نقضي الدين وجدناه سبعة آلاف ريال، ووجدنا -مثلاً- أن الحج عنه بألف ريال، ووجدنا الذي وصى به أربعة آلاف ريال، فأصبح المجموع اثني عشر ألفاً، وكان ثلث ماله عشرة آلاف ريال، وهذه مسألة التقديم، فنقدم الدين، ونقدم الحج، ثم نتصدق بنصف الأربعة آلاف تتمةً للعشرة آلاف ريال، فمسألة التقديم هذه لا تُشكل على طالب العلم؛ لأن الحقوق الواجبة يجب سدادها سواء وصّى أو لم يوص، وإنما أدخلناها في الثلث أولاً إذا نص على أنها تكون ضمن الثلث، فيقول: اقضوا الدين من الثلث، وحجوا عني من الثلث، واعتمروا عني من الثلث، وأدوا ثلاث فديات من الثلث، فيجعلها حقوقاً واجبة.
فحينئذٍ يُنظر فيها على التفصيل الذي ذكرناه في مسألة الثلث، وأما من حيث الأصل فلا إشكال أن الذي يجب هو المبادرة بسداد الدين، سواء وصَّى أو لم يوصِّ.