وإذا أراد الإنسان أن يقترض شيئاً فعليه بأمرين مهمين: الأمر الأول: ألا يقترض إلا من حاجة شديدة ماسة، فإن من نزلت به فاقة وحاجة فردها إلى الله عز وجل، أوشك الله له بالفرج العاجل، فجعل الله قليله كثيراً، ويسيره عظيماً، وبارك له، ومن يصبر يصبِّره الله.
وإذا ضاقت عليه الأمور لحاجة ماسة، مثل: طعام الأولاد والأهل، أو لشقة يستأجرها، أو يستدين لشراء سيارة من أجل نقلهم، وقد يكون عدم وجود هذه السيارة زيادة دين، فهذه حوائج يُضطر إليها الإنسان فتُبيح له الدين، وتبيح له المسألة، وإذا لم توجد حاجة ماسة فليتق الدين؛ فإن الدين في الحقيقة تبعة ومسئولية وبلاء على العبد، ولذلك قال بعض السلف في الدين: (هم الليل وذل النهار).
وهذا إبراهيم بن أدهم حينما ركب البحر، فهاج البحر، وجاءت أمواج عظيمة حتى كادوا أن يغرقوا، فقيل له: يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة؟ فقال: إنما الشدة الحاجة إلى الناس.
نسأل الله العظيم بوجهه الكريم ألا يجعل لنا ولكم إلى لئيم حاجة، وأن يجعل لنا ولكم الغنى به سبحانه والفقر إليه.
فالمقصود: أن الإنسان يصبر قدر المستطاع، فإذا ضاقت عليه الأمور ووُجِدت الحاجة، فيطلب دينه ممن يعرف منه السماحة وحسن النفس وطيبها، ومن لا يُضيق بالاستدانة منه؛ لأن مثل هذا حرِيٌ به أن يُسامح، وحريٌ به أن يوسِّع عليه، فلا يُضيق على نفسه مع وجود السعة، فإذا وجد غنياً كريماً طيباً، وفيه الخير، ويحب معونة الناس؛ عرض عليه أمره، أما إذا كان الإنسان الذي يريد أن يسأله ويطلب منه -حتى لو كان قريباً- يعلم أنه سيضيق عليه، فالأفضل أن لا يُضيق عليه؛ لأن المال الذي في الدين يُبارك لصاحبه إذا أخذه على الوجه الحسن، ويضع الله فيه البركة، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم من كان سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى، فلابد أن يكون الإنسان سمحاً، فلا يُضيق على الناس في الدين، ولا يُحرج أحداً بذلك ما أمكنه.
الأمر الثاني الذي ينبغي توفُّره: حسن النية، فينوي في قرارة قلبه أن يرد هذا المال عاجلاً أو آجلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).
فقوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها)، أي: في نيته وقرارة قلبه، والله يشهد ومطَّلع عليه أنه أخذها ليسدِّد عند وجود اليسر والسعة، ومن أخذها يريد إتلافها، أو أن يتلاعب بها، فكما أخذ ديناً وقضى ديناً جاء إلى دين آخر، ثم أخذ من فلان وفلان وأخذ يتلاعب، وهو يعلم أنه لن يستطيع السداد، ويعلم أنه يستطيع أن يُضيق على فلان مع أنه غني فيماطله ويؤخره حتى ييأس من حقه، ثم ينفلت من التبعة، لكنه لن ينفلت من عقوبة الله جل جلاله، ولو كان صاحب الحق غنياً، فالحق حق، ولذلك أمر الله بالشهادة العادلة ولو كانت على فقير: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135]، فلو كان الذي له الحق غنياً فلا تقل: إن هذا فقير، وقد استدان وهو ضعيف، وهذا غني، لا، فما دام أنه أخذ حقاً فليرده إلى صاحبه، سواء كان غنياً أو فقيراً، فلا يجوز أن يأخذ أموال الناس وهو يريد إتلافها.
فمن يأخذ الأموال تلو الأموال وهو يعلم من قرارة قلبه أنه لن يسدد، بل أصبحت عادةً له، فمن فعل ذلك فإن الله يفتح عليه باب الاستدراج حتى لا يُبالي به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك ينزع الله البركة من المال الذي يأخذه، ولربما جعل الله حتفه ونقمته عليه في الذي أخذ، فيبني (عمارة) فتكون سبباً في شقائه ومرضه، أو يأخذ سيارة فيكون فيها حتفه ونهايته والعياذ بالله، أو حتف ولد من أولاده، أو حتف عزيز عليه؛ لأنه كما يضر بالناس يضر الله به.
فالنية مهمة جداً، فلا يأخذ الإنسان الدين إلا من وجود حاجة وضرورة، ولا يأخذ إلا وفي نيته وفي قرارة قلبه أن يقضيه، ثم يستعين بالله عز وجل على قضاء دينه بأمرين أعظمهما وأجلهما: كثرة الدعاء، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من غلبة الدين وقهر الرجال، فيستعيذ بالله من غلبة الدين، ثم يُبادر بالسداد ولو كان عنده ريال واحد من عشرة آلاف، فكلما تيسر له السداد قليلاً كان أو كثيراً فليسدد، فإن هذا من أفضل وأبرك ما يكون في سداد الديون؛ لأن مثل هذا حري أن يُعينه الله عز وجل، ويفتح له أبواب الفرج من حيث لا يحتسب.
وعلى كل حال: الدين أمره عظيم، حتى إنهم قالوا: إن الإنسان قد يُؤذى في عبادته وخشوعه وصلاته وطاعته بسبب حقوق الناس، فتجد الرجل أخشع ما يكون قلباً، فإذا وقع في الدين تغير حاله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه) أي: مرهونة بدينه، ولم يفرق بين الحياة والموت، وهذا الذي جعل بعض العلماء يتحاشى الدين ولا يُحبه ولا يرضاه، حتى إنه يخشى أن يُؤثر على صلاحه واستقامته؛ لأن صاحب الحق إذا طلب حقه أَجحف بالإنسان، وشوّش عليه في عبادته، وآذاه وأضره.