صور الإبراء والإحلال من الدين

قوله: [ومَن أبرأ غريمَه] يكون الإبراء على صورتين: الصورة الأولى: أن تجود نفسُك بدون أن يطلب منك أخوك المسلم، فهذا أفضل وأكمل وأعظم ثواباً وأجراً؛ وذلك لأنه إذا سألك فقد أحوج نفسه، وأصابه ذل السؤال؛ لكن كونك أنت الذي تتفضل وتقول: يا فلان! لا أريد من هذا الدَّين شيئاً؛ فإن هذا أعظم ثواباً.

وكان بعض العلماء رحمهم الله إذا جاءه أحد إخوانه يسأله الدَّين نوى من أول إعطائه المجاوزة، أنه لا يريد هذا الدَّين، ويوصي ورثته ويكتب: أن ديني عند فلان قد أسقطته وأبرأته، وهو في حل منه، ولو جاء يرده فلا تأخذوه منه، ويقول: ما أعطيتك هذا المال وأنا أرجوه يوماً من الأيام.

وهذا من أفضل ما يكون من الإبراء؛ لأنك إذا أبرأت الغريم، وقد جاءك معسراً أو محتاجاً، وأعطيته ديناً في أول محرم إلى آخر السنة، إن سامحته من أول أخذه؛ كتب الله لك ثواب الأجر تاماً كاملاً من أول لحظة من الدين؛ لكن لو انتظرت حتى يأتي وقت السداد، كان أجر المال قرضاً في الفترة التي يستغرقها مستقرضاً، ثم يكون بعد ذلك فضل الإنسان بالمسامحة، وهذا أقل ثواباً، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إن الله يتلقى الصدقة من عبده بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها له ويربيها له كما يربي أحدكم فُلُوَّهُ حتى يجدها يوم القيامة أوفر ما تكون).

فهذا يدل على فضل الإبراء عند أول الدين، ولا شك أن هذا -كما قلنا- أفضل وأعظم ثواباً وأجراً.

أما الصورة الثانية من الإبراء فهي: الإبراء الذي يكون بعد الطلب أو السؤال أو اطلاع الإنسان على حالة المحتاج، فهذا أقل ثواباً وأقل فضيلة من الأول.

وهناك ما يسمى بالإبراء المعلق، والإبراء المعلق يدخل في الصورة الأولى، مثاله: أن يعطيه الدَّين ويقول: إن وجدتَ سداداً فردَّه، وإذا لم تجد سداداً فإني مسامحك وأنت في حل.

هذا يكون فيه معلقاً بين الأمرين؛ لكن الأول أفضل وأكمل.

حتى كان بعض المحسنين والصالحين ممن أدركناهم يخبر عن والده الذي كان من أكثر أهل المدينة فضلاً وإحساناً على الناس، فيقول: لما حضرته الوفاة -وكان عنده سجلان في تجارته- قال لولده: ناشدتك الله أو أسألك بالله، هذا السجل الأول لا تفتحه، ولا تسأل أحداً ما في هذا السجل، وأما السجل الثاني فهذا فيه الغرماء القادرون على السداد والعطاء، فأما الأول فوالله ما وضعتُ فيه إلا أيتاماً وأرامل ومحتاجين، فإياك أن تفتحه، واستسمح إخوانك من حقوقهم فيه، وأحرقه مباشرة.

قال: فبمجرد ما توفي نفذنا وصيته، فأحرقنا السجل، ولا نعلم من هي الأسر الموجودة فيه.

وهذا من أكمل ما يكون من التوفيق.

لكن إذا كان أبرأه إبراءً بالطلب وقال له: يا فلان! إني عاجز عن السداد، فقال: أنت في حل، أو قال: إني عاجز عن رد المبلغ فقال: أبرأتُك، فحينئذٍ إذا أبرأه مَلَكَ مالَه، وحُكِم ببراءة ذمة المديون، ولا يلزم أن يرد المال ثم يبرئه.

وهذه المسألة مثل الهبة لكنها اختلفت في وجود الدَّين السابق، ثم بعد أخذه للدَّين سامحه صاحب الدَّين وأبرأه، فهل يشترط أن يرد له ثم يعطيه؟

و صلى الله عليه وسلم أنه إذا أبرأه فقد برئ، وإذا جعله في حل؛ فقد أصبح حلالاً من تبعة ذلك المال أو الدَّين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015