قال رحمه الله: [ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه كمن جعل أرضه مسجداً وأذن للناس في الصلاة فيه، أو مقبرة وأذن في الدفن فيها] قوله: (ويصح بالقول): أي ويصح الوقف شرعاً بالقول الدال عليه، وسيأتي أن القول ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون صريحاً كقوله: أوقفت وحبّست وسبّلت، أو يكون كناية كقوله: حرّمت أبّدت تصدقت، فهذا كله من ألفاظ الوقف، ويختلف اللفظ الصريح عن الكناية من جهة أنه لا يحتاج إلى نية، وسيأتي إن شاء الله الكلام على أحكام اللفظ.
فبيّن رحمه الله الركن الأول المتعلق بالوقف وهو الصيغة، فالوقف له صيغة، والصيغة تنقسم إلى قول وفعل، بعض العلماء يقول: الوقف لا يكون إلا بالقول فقط، ولا يقع الوقف بالفعل ولو دل عليه، فيرون أن الوقف لابد فيه من اللفظ، وأنه إذا لم يتلفظ لا يقع الوقف، كما يختاره أئمة الشافعية رحمهم الله، وهذا تقدم معنا في مسألة بيع المعاطاة، هل تشترط الصيغة أم أن الفعل يُنزل منزلة القول، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله برحمته الواسعة كلام نفيس في كتابه النفيس: القواعد النورانية، بيّن فيه إجماع السلف الصالح، وذكر فيه نصوص الكتاب والسنة، وهدي السلف الصالح على أنهم كانوا ينزلون الأفعال منزلة الأقوال في الدلالة، فلا يشك المسلم بأن الشخص إذا بنى بناءً على شكل المسجد، ثم فتح أبوابه وأَذِن للناس في الصلاة فيه دون أن يتكلم؛ أن هذا الفعل كما لو قال لهم: أوقفت.
كذلك أيضاً، لو أنه جاء إلى خزان ماء، فأخرج منه صنبور الماء ووضع كيزان الماء على الطرق العامة أو السابلة، أو أجرى قنطرة من الماء كما في القديم، انصبت في مكان عال لسقي الدواب أو سقي الناس، فلا يشك أحد أنه يقصد من هذا الفعل سقي المسلمين، ولا يحتاج أن يقول: وقّفت أو أوقفت هذا، أو سبلت هذا أو حبّست هذا، وإنما ننزل فعله منزلة قوله، ويكون الوقف ثابتاً بالفعل كما هو ثابت بالقول.
ولا شك أن هذا المذهب الذي يقول: إن الأفعال تُنزّل منزلة الأقوال هو المذهب الصواب إن شاء الله، خاصة وأن نصوص الكتاب والسنة تتضمنه، وكذلك إجماع السلف الصالح رحمهم الله يدل على أنهم كانوا ينزلون الأفعال منزلة الأقوال.
إذا ثبت هذا فمعناه أن الصيغة التي هي ركن من أركان الوقف تكون بالقول وتكون بالفعل، فبيّن رحمه الله الصيغة بقوله: (ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه).
وقوله: (وبالفعل الدال عليه): يشترط في الفعل أن تكون له دلالة، فإذاً: ليس كل فعل نقبله ونلزم الناس بأنها أوقفت وحبّست وسبّلت، بل لابد وأن يتضمن ذلك الفعل دلالة كما ذكرنا، مثلاً: البناء الذي يكون على شكل المسجد، وتجد فيه هذه القبة التي توضع على المساجد، وهي ليس من باب العبادة، إنما نشأت في أواخر عصور بني العباس، وكانت طريقة هندسية يُراد منها إيصال الصوت.
ولذلك المساجد التي تجد فيها هذه الفراغ يسري فيها الصوت أكثر من المساجد المصمَتة التي تكون مثل الغرف، وهذا مجرب، ووجدنا هذا في بعض الأحيان، فكنا إذا انقطعت الكهرباء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الإمام في المحراب ونسمع صوته من آخر المسجد الأحمر.
وهذا شيء ليس له علاقة بمسألة عبادة، إنما أن تحصر القباب في بنائها على الأولياء والقبور والمشاهد، فهذه من المنكرات والبدع التي ينبغي إزالتها وعدم جواز بقائها، لكني أتكلم أن القبة مما اصطلح الناس على وضعها في المساجد خاصة، لتأثيرها في نقل الصوت بداخل المسجد بشكل أوضح لا أنها أمر تعبدي.
فإذا بنى إنسان بناء على شكل المسجد ووضع مثلاً هذه القبة عليه، وأشرع المنارة، فهذا الفعل منه دال على أنه يريد أن يجعله مسجداً، وقد ثبت عن بلال رضي الله عنه في رواية حسنها بعض العلماء وبعضهم يقول: إنها ترتقي إلى درجة الصحيح لغيره، أن بلالاً كان يؤذن أذانه الأول للفجر على سطح بيت الأنصارية بجوار المسجد، والرواية فيه مشهورة، وهي التي جاء فيها أنه كان يؤذن ثم يلعن المشركين، حتى إذا قارب الفجر للانبزاغ نزل رضي الله عنه فصعد ابن أم مكتوم وأذن.
فالشاهد أنه كان يؤذن على مكان عال بقصد بلوغ الصوت لأنه كان يُحتاج إلى ذلك.
ثانياً: من فوائدها أنها تدل على المساجد، فأنت إذا جئت إلى بلد، وتريد أن تصلي وأنت لا تعرف البلد، ولا تعرف مساجده، لا تستطيع أن تستهدي للمسجد إلا بهذا البناء وهذه الأمارة.
فالبناء على هيئة وشكل المسجد دال على إرادة وقفه مسجداً لله عز وجل.
فإن فتح بابه، وأشرعه للناس جاز للغير أن يدخل فيه وأن يصلي فيه، ويعتبره وقفاً، ويكون فعله منزلاً منزلة قوله: أوقفت هذا المسجد لله عز وجل.
ولما قال المؤلف: (يصح بالقول وبالفعل الدال عليه) لم يجعل الفعل موجباً للوقفية دون أن تكون فيه دلالة، والدلالة تنقسم إلى قسمين: الدلالة الخفية، والدلالة الظاهرة.
والمعتبر عند العلماء رحمهم الله -الذين يقولون بأن الأفعال تُنزّل منزلة الأقوال- الدلالة الظاهرة لا الدلالة الخفية، فإن الوقف يُوجب خروج المال عن ملكية صاحبه، ويوجب زوال يده عنه، والأصل أنه مالك، والأصل أنه متصرف فيه، فحينئذٍ لا نحكم بكونه وقفاً إلا إذا كان قاصداً له ودالاً عليه.
بناءً على ذلك لو أننا وجدنا شخصاً أراد أن يقيم مسجداً في موضع، أو كان في الموضع مسجد، وهدم هذا المسجد من أجل البناء، فجاء وقال للناس: صلّوا في الحوش عندي مثلاً، صلوا في البيت نفهم أن قوله: صلوا في البيت ليس المراد به وقفية البيت للمسجد، وإنما مراده: ما دمتم محتاجين إلى مكان تصلون فيه، فإني قد وهبتكم بيتي ووهبتكم حوشي أو مكاني هذا من أجل الصلاة فيه حتى يتيسر بناء المسجد.
فهذا الفعل غير دال على الوقف رغم دلالته في الظاهر، لكن بساط المجلس والحال الذي وقع فيه العرض من الشخص ليس دالاً على الوقفية، فلا نعتبره موجباً للحكم بكون ذلك الموضع قد زالت ملكية صاحبه عنه أو صار وقفاً أو مسجداً.
إذاً يشترط أن يكون الفعل دالاً، وقلنا: العبرة بالدلالة الظاهرة لا بالدلالة الخفية.
قال رحمه الله: [كمن جعل أرضه مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه] (كمن) الكاف للتشبيه، أي: كشخص جعل أرضه مسجداً، وأذن للناس بالصلاة فيه، وجعلها مسجداً، معناه: أن هيئة الأرض، وبناءه لها، وعمارته لها كانت على شكل المسجد، فحينئذ نعتبره وقفاً، فمن فعل هذا الفعل نعتبره قد أوقف الأرض، فلو تُوفي وجاء ورثته، وقالوا: الأرض أرض مورِّثنا، ونريد أن نبيعها، نقول إنه لما بناه على هيئة المسجد وأشرعه للناس، وأذن للناس بالصلاة فيه، فإنها دلالة ظاهرة تُنزَّل منزلة قوله: أوقفت هذه الأرض مسجداً.
قوله: (وأذن للناس في الصلاة فيه) لابد من وجود الإذن، والإذن أصله الإباحة، يقال: أذنت له بالدخول: أي أبحت له الدخول، فالأصل أن الأرض لها حرمة، كبيوت الناس ومساكنهم، فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بإذن، فإذا بناه على هيئة المسجد وأذن للناس بالصلاة فيه؛ فإننا نعتبره فعلاً دالاً على الوقفية.
لكنه قد يبنيه على هيئة وشكل المسجد، ولا يأذن لأحد بالصلاة فيه، يقول: أريد أن أبيعه بحيث من يشتريه يجعله مسجداً، وهذا سائغ ويجوز، كما لو اشترى سيارة مثلاً لنقل طلاب العلم أو نحوها، وقصد من ذلك أن يبيعها على من يوقفها، فقال: أريد أن أبتاعها من أجل أن يشتريها من يريد إيقافها، فالمقصود أن يأذن بالصلاة فيه، فيوجب الفعل الدال على أنه قصد الوقفية وتسبيلها لله عز وجل.
وإذا أَذِنَ وخرج منه القول واللفظ الدال على الوقفية، فإن العلماء رحمهم الله يقولون: تنتقل الملكية عنه، وهذا على أصح قولي العلماء أن من أوقف وقفاً عاماً أو خاصاً على جهة معينة، أو على أفراد، فإنه صدقة عليهم، مثل المسجد مثلاً، تزول ملكيته عن ذلك الشيء، وإذا زالت ملكيته وامتنع بيعه، فلو أن هذا المسجد تهدّم وأصبحت أرضه مثلاً خالية، أو احتيج حاجة ماسّة مثلاً إلى هدمه وتعويضه بمسجد آخر، يرد الإشكال، فكيف نبيع هذا المسجد ولا مالك له؟ وبناءً عليه قال العلماء: لابد من الرجوع إلى القاضي؛ لأن القاضي ولي من لا ولي له، وهو من الأحباس المسبّلة لوجه الله عز وجل، ومنه يقولون: ينتقل لله عز وجل، والقاضي والسلطان والإمام يتولى النظر في مثل هذه الأمور، فيكون منزَّلاً منزلة من يملكه حتى يصح البيع ويكون بيعاً شرعياً؛ لأن البيع لا بد فيه من وجود بائع ومشتر، والبائع لابد أن يكون مالكاً، أو له ولاية.
فالقاضي إذا تولى المسجد وباعه، فإنه يكون من باب الولاية لا من باب الملك، وهذه الولاية سببها أن الملك قد زال عن الأرض بإيقافها، سواءً كانت مسجداً، أو كانت مقبرة أو غير ذلك مما سُبِّل في وجوه الخير.
قال: [أو مقبرة وأذن في الدفن فيها] المقبرة: واحدة المقابر، والأصل في هذه التسمية قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21]، وجعل الله عز وجل من رحمته لبني آدم، وإكرامه لهم سبحانه أن الميت منهم لا يُترك على وجه الأرض؛ لأنه إذا ترك على وجه الأرض أكلته السباع، وانتهشته الجوارح، وأنتن وآذى الناس وأضر.
فمن حكمته سبحانه وتعالى أن علّم وألهم بني آدم أن يقبر بعضهم بعضاً، فالمقبرة يُحتاج إليها لدفن الموتى، فإذا كان الإنسان يملك أرضاً وأراد أن يجعلها لآخرته، وأن يكسب البر والثواب بإيقافها فأوقفها مقبرة، فإنه بفعله لتسويرها، وفتح بابها، وإِذنه للناس إذناً ضمنياً أو إذناً صريحاً أن يُدخلوا موتاهم، وأن يقبروهم في ذلك الموضع؛ فإنه يكون هذا الفعل منه دالاً على الوقفية، فتكون الأرض وقفاً، إن كانت عامة فعامة، وإن كانت خاصة فخاصة، كأن تكون مقابر مخصوصة لآل بيت، كقرابته، فيقول: هذا الحوش أريده مقابر لي ولآل بيتي أو قرابتي، فيكون قد أوقفه على نفسه، وعلى أهل بيته.
فكل من كان تنطبق عليه هذه الصفة، يجوز أن يُقبر ويدفن فيها، لكنها تكون صدقة، ويكون وقفاً، ويكون فعله دالاً على الوقفية كقوله.