قال رحمه الله: [وإن غصب كلباً يقتنى أو خمر ذمي ردهما].
هذه المسألة متعلقة بالتعريف، وهو يقول: الاستيلاء على حق الغير، فلابد أن يكون عندنا غاصب ومغصوب منه، وشيء مغصوب، وهذا الشيء المغصوب يشترط فيه أن تكون له حرمة، وأن تكون له قيمة، فإذا كانت له قيمة كالثوب والدابة والأرض، وله حرمة وقيمة شرعاً، حرم شرعاً، فإذا لم تكن له حرمة مثل أن يغصب خمراً، فالخمر لا حرمة له شرعاً ولا قيمة، فلا نقول: إنه غصب، لكن يفصل بين من يجوز له أن يشرب الخمر وبين من لا يجوز له أن يشرب الخمر، فالذميون وأهل الكتاب يجوز لهم شرب الخمر ومباح في دينهم، فهو محترم بالنسبة لهم ومال وله قيمة في دينهم، لكنه ليس له قيمة عندنا نحن وليس له حرمة.
ولو أنه غصبه ميتة، فالميتة لا قيمة لها ولا حرمة لها، فحينئذٍ لا نقول: هذا غصب، لكن في المسألة تفصيل.
فقوله: (وإن غصب كلباً يقتنى).
الكلب -أكرمكم الله- ينقسم إلى قسمين: ما أذن الشرع باقتنائه، وما لم يأذن الشرع باقتنائه؛ فقد أذن الشرع باقتناء كلب الصيد والحرث الذي يكون للحراسة، وكلب الماشية الذي يكون لحراستها أيضاً، وكلب الصيد لأن الله أحل لنا أكل صيد الكلاب: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، هذه الثلاثة الأنواع من الكلاب -أكرمكم الله- يباح اتخاذها، وأذن الشرع باقتنائها لمن يقتنيها لواحد من هذه الثلاثة: يقتنيها للصيد، أو لحراسة مزرعة، أو لحراسة ماشية، وما عدا ذلك فلا، وليس له قيمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم ثمن الكلب، وقال كما في الحديث الصحيح في الصحيحين: (ثمن الكلب سحت)، ونهى عن ثمن الكلب كما في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وفي حديث جابر لما سئل عن ثمن الكلب والسنور قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، وفي حديث ابن عباس في السنن: (إن جاءك يريد أخذ ماله -يعني: أخذ مال الكلب- فاملأ كفه تراباً).
فإذاً: الكلب ليس له قيمة، فلو أنه غصب كلباً فإننا ننظر فيه: إن كان من غير الثلاثة فإن هذا الكلب يعتبر لا قيمة له، ولا يطلق على من أخذه أنه غاصب، لكن لو أنه أخذ كلباً يقتنى فإننا نقول: هناك مسألتان في الغصب: إن قتل الكلب وقضى عليه وأهلكه فلا نوجب عليه الضمان؛ لأنه لا قيمة للكلب، وإن كان الكلب موجوداً فنقول: يجب عليك رد الكلب لمن أذن له شرعاً باقتنائه، فنرخص بقدر ما رخص الشرع.
فالذي يغصب الكلب له حالتان: إما أن يكون الكلب مما أذن باقتنائه، فحينئذٍ يجب عليه رده إن كان موجوداً ولا ضمان عليه إن أتلفه، وإن كان الكلب غير مأذون باتخاذه كأن يأتي شخص فيجد شخصاً يلعب بالكلب فيأخذ الكلب ثم يتلفه -كما لو كان مأموراً بقتله- فقتل الكلب، فنقول له: لا يجب عليك الضمان ولو كان الكلب حياً لا يجب عليك الرد؛ لأننا لو قلنا: إنه يرده فإن هذا الشخص الذي يقتني الكلب على وجه غير مأذون به شرعاً يعتبر متعاطياً للحرام.
فالآخذ للكلب لو قلنا له: رده، أعان على الإثم والعدوان، فنقول: لا يجب الرد، إن كان الكلب غير مأذون باتخاذه، لكن إن كان مأذوناً باتخاده وجب الرد، فإن أتلفه فلا ضمان عليه.
لكن يبقى
Q إن كلب الصيد يعلّم، وربما كان أثناء تعليمه تحمّل مصاريف التعليم، ولربما استأجر شخصاً من أجل أن يعلّم الكلب، فهل يضمن ذلك أو لا يضمن؟ المنصوص عليه عند العلماء عدم الضمان، ويقوم القاضي بتأديب الشخص الذي أخذه، فيكون الضمان هنا للتأديب، ويكون دفع القيمة إجارة للمصلحة، فقالوا: هذا للمصلحة وقد علّم كلبه وحصلت له المصلحة، ثم بعد ذلك الضمان لا يضمن، لأن هذا من جنس ما يضمن.
وهناك قول يقول: يجب عليه ضمان أجرة التعليم، فيضمن له أجرة تعليم الكلب؛ لأنه فوت عليه مصلحة مأذون بها شرعاً.
إذاً: بالنسبة للكلب فيه تفصيل على الوجه الذي ذكرنا: إن كان مما أذن باقتنائه وجب رده إن كان حياً، ولا ضمان على من أتلفه، وإن كان غير مأذون باتخاذه نقول: لا يجب عليك رده ولا يجب عليك الضمان إن أتلفته.
وقوله: (أو خمر ذمي).
أي: إن أخذ خمر ذمي وجب عليه الرد إن كان الخمر موجوداً، ولا يجب عليه الضمان إن أتلفها؛ لأن الخمر لا قيمة لها، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أنه قام في الغد من فتح مكة وأخذ بحلق الباب -كما في الرواية في السير- وقال عليه الصلاة والسلام في خطبته: إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) فقال: (حرما بيع الخمر) فأسقط قيمة الخمر، ودل على أن حكم الشرع على أن الخمر لا قيمة لها بحكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما فتح عليه الصلاة والسلام الطائف، جاء له صديق في الجاهلية وأعطاه مزادتين من الخمر هدية له على الفتح، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للرجل: (أما علمت أن الله حرمها؟ -كان يظن أن الخمر مباح- فقال: ما علمت، فقام رجل فساره -أي: سار صاحب المزادتين- قال عليه الصلاة والسلام: بم ساررته؟ قال: أمرته أن يبيعها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الذي حرّم شربها حرّم بيعها) فأسقط المالية عن الخمر، ودل على أن الخمر لا قيمة لها، فلو أتلف الخمر نقول: لا يضمن قيمة الخمر، سواء كانت خمر ذمي أو غيره.
يقول قائل: الذمي مأذون له في الخمر وماله كمال المسلم بحكم عهد الذمة، قالوا: هذا شريطة ألا يظهر، فإن أظهر فقد أخرجها عن ضمان حقه.