واختلف العلماء رحمهم الله في عقد المساقاة على أقوال: من أهل العلم من يقول: كل نخلٍ وكل شجرٍ له ثمر تجوز المساقاة عليه، وهذا المذهب يوصف بمذهب العموم، أي: أن أصحاب هذا القول يرون مشروعية المساقاة على جميع المزارع التي تشتمل على مزروعاتٍ فيها ثمار، فيصح أن تساقي على مزرعة النخيل ومزرعة العنب، ومزرعة الليمون، ومزرعة التفاح والبرتقال والتين والمشمش، ونحوها مما له ثمر.
وبناءً على هذا القول يصبح العموم في جنس ما له ثمر؛ لأن المزروعات يكون لها ثمر، منه ما يؤكل ومنه ما لا يؤكل.
ثم إن هناك مزروعات لا ثمر لها مثل أشجار الزينة، فينحصر عند أصحاب هذا القول الاتفاق في المساقاة على المزارع التي تشتمل على ما له ثمر، وهذا القول هو اختيار الحنابلة رحمهم الله، واختاره بعض أئمة الحديث، أعني أنه يجوز أن تُساقي على كل مزرعةٍ فيها مزروعاتٌ لها أثمارٌ تؤكل، فيشمل النخيل والعنب والحمضيات بسائر أنواعها.
فهذا قول الحنابلة وهو الذي درج عليه المصنف رحمه الله.
وقال بعض العلماء: لا تصح المساقاة إلا على النخيل فقط، وهذا مذهب الظاهرية قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على النخيل فقط، فلا تصح المساقاة إلا على النخيل دون بقية المزروعات، وهذا القول لا شك أنه مرجوح.
وقولٌ ثالث عند من يجيز المساقاة في الثمار أنها تصح على نوعين: النخيل والأعناب (الكَرْم) وقالوا: إن النخيل والأعناب يجوز أن يساقى عليها؛ لأن العِنب يأخذ حكم النخيل في أكثر الأحكام كما في الزكاة ونحوها، وأشبه المزروعات بالنخيل العنب.
وبناءً على ذلك قالوا: لا يصح أن يقع عقد المساقاة إلا على مزرعة تشتمل على نخيل أو على عنب أو عليهما معاً، فلو سأل سائل وعنده أشجار حمضيات كبرتقال أو ليمون، وأراد أن يُساقي عليها ويقوم على رعايتها، فعلى هذا القول لا يجوز، وهو مذهب الشافعية.
فالظاهرية يخصُّون المساقاة بالنخيل لظاهر الحديث.
والشافعية يخصونه بالنخيل، والعنب عندهم ملحق بالنخيل قياساً.
والحنابلة نظروا إلى نص الحديث ومعناه، ومذهبهم أقوى وأرجح إن شاء الله، وهو أن المساقاة تُشرَع وتجوز على كل المزروعات التي لها ثمرة تُؤْكَل، فإن كانت المزروعات لها أثمارٌ لا تُؤْكَل مثل القطن، فإنه لا يصح أن يساقى عليها.
وهذا شبه إجماع على أن المزروعات التي لا ثمرة لها أو لها ثمرة لا تؤكل لا تجوز المساقاة عليها.
وهذا يؤكد أن عقد المساقاة ليس عقداً قائماً برأسه، إذ لو كان عقداً قائماً برأسه لانصبّ على كل ما فيه منفعة، ولكن قولهم: إذا لم يكن له ثمرة لا يساقى، يدل على أنه مستثنىً من الأصول، ولذلك انحصر في النخيل وما في حكمها من جهة الثمر.
وإذا أردت أن تُجري السبر والتقسيم في الأوصاف المعتبرة في النص فإنك تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على سقي النخل، ولا شك أن العنب كان موجوداً؛ فيكاد يحصل الجزم على أن أرض خيبر كان فيها العنب، وهذا أمر لا يمكن لأحد أن ينكره، ولذلك فالغالب أنه ساقاهم على النخل وغيره، وذُكِر النخل فقط؛ لأنه أغلب، وإلا فقد كانت المزروعات موجودة، وكل ذلك كان معروفاً، حتى إن اليهود لما قدِموا من الشام كانوا يعرفون الحمضيات، وكانت أرض الشام فيها الحمضيات، بل إنه يقوم أكثرها على زراعة الحمضيات، وعلى هذا فإن الصحيح أنه يجوز أن يساقى على كل شجرٍ له ثمرٌ يؤكل.
فاستفدنا من هذا صحة المساقاة، ودليلها ما ذكرناه.
ثانياً: أن المساقاة تصح على كل شجرٍ بشرط أن تكون له ثمرة تؤكل، فلا تصح على كل شجرٍ لا ثمرة له، أو على كل شجرٍ له ثمرة لا تؤكل، ولا تنحصر في نوعٍ من المأكولات والثمار أو من الأشجار التي لها ثمارٌ تؤكل دون غيرها.
وقوله رحمه الله [تصح على كل شجرٍ له ثمرٌ يؤكل] بنص الحديث في النخل، وفي حكم النخل سائر الأشجار التي تؤكل، وذلك من جهة المعنى.
توضيح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن حق العاملين بالمساقاة بجزء مما يخرج، فإذا قلنا: إن هذا خاص بالنخل فإن هذا ضعيف؛ لأنه إذا عامل على التين والعنب والليمون والبرتقال فإن حق العامل محفوظ، كما لو عامل على النخل، وبناءً على ذلك فالقول بكونها خاصة بالنخل جمودٌ على الظاهر، والشريعة تعتبر الظاهر والمعنى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
فنحن نفقه ونفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قَصَد من المساقاة أمرين: بقاء النخل عند مصلحة النخل لمن يملكه ويعجز عن القيام به، وضمان حق العامل، وهذا يقع في الحمضيات وأشجار الثمار التي لها ثمرة تؤكل كما يقع لغيرها من بقية المزروعات.