وهنا مسألة: إذا كان الربا محرماً فنريد أن نتعرض لمسألة شبهات جواز الربا، وهي مسألة مهمة، حيث إن هناك شبهة تعتبر من أدق الشبهات التي يحتاج طالب الفقه إلى دراستها، ومعرفة جوابها، وهي باختصار أنهم قالوا: فوائد الربا كفوائد القراض، فتجوز فائدة الربا كما تجوز فائدة القراض وهذا يحتاج إلى شرح وتوضيح.
وحاصله: أنهم يقولون: هناك عقد شرعي وهو المضاربة أو القراض، وهو جائز شرعاً، والفوائد المصرفية والبنكية والعوائد الربوية بمنزلة العوائد من المضاربة.
وهذا يحتاج أولاً إلى أن نعرف ما هي المضاربة، ثم كيف قيست الأسهم والفوائد والعوائد الربوية على المضاربة.
قالوا في المضاربة: حقيقتها أن يدفع رب المال مائة ألف مثلاً لعامل، ويقول له: اذهب واضرب بها، فإن ربحت فالربح بيني وبينك مناصفة، فإذا ربح خمسين ألفاً، فيأخذ خمسة وعشرين ألفاً، ويعطي صاحب المال مائة وخمسة وعشرين ألفاً، قالوا: فكما أن رب المال أخذ مائة وخمسة وعشرين ألفاً، فإنه يجوز لمن أودع مائة ألف أن يأخذ فائدة عليها عشرة آلاف، أو عشرين ألفاً، على حسب المتفق، فالبنك والمصرف بمثابة العامل الذي عمل بالمضاربة، والعميل بمثابة رب المال في المضاربة.
وما الفرق بين الاثنين؟! واعجب فما تنفك من عجائب! حينما يأتي بعض من لا يحسن النظر في الفقه، ويتسمى بأنه فقيه، أو عنده إلمام بالفقه، ويقول: إن المضاربة عقد ليس فيه نص من الكتاب ولا من السنة، فيختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة! وحينئذٍ نقول: هذه العوائد البنكية هي مضاربة عصرية؛ لأننا اجتهدنا فيها باجتهاد العصر الملائم، وهذا كما قال تعالى: {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال:48]، انظر كيف يزين الشيطان لهم، وحينئذٍ نحتاج إلى أن ندرس هذه الشبهة باختصار.
وحاصل ذلك أن نقول: إن المضاربة ثبتت بدليل السنة، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة، فقال: إن بعض الفقهاء يقول: المضاربة ليس فيها نص من الكتاب والسنة، وقد أخطأ في ذلك، فإن المضاربة كانت معروفة في الجاهلية، وأقرها الإسلام، فبسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عليها كانت مشروعة بدليل أنه ضارب بمال خديجة، وهذا ثابت ولا إشكال فيه، وكان في القديم رحلة الشتاء والصيف، قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1 - 2]، فكانوا يتاجرون بالمضاربة، ويعطون من يقوم على هذه التجارة والعير، من وجهاء قريش كـ أبي سفيان ونحوه، فقد يخرج بها ويضارب ثم يأخذ نسبة من الأرباح على التجارة، وعلى هذا قال: إنها ثابتة بالسنة، فمن قال: إنه لا نص فيها بالكتاب والسنة، فهذا جاهل، هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية: أن فيها إجماع الصحابة، وحاصلها قصة عمر المشهورة مع ابنيه عبد الله وعبيد الله، فإن عبد الله وعبيد الله خرجا إلى أبي موسى الأشعري في الكوفة، وكان أبو موسى والياً عليها، فقال لهما: ليس عندي من شيء، ولكن خذا هذه الإبل، واضربا بها، وأديا إلى أمير المؤمنين رأس المال، وخذا الربح، فمضيا وتاجرا في الطريق حتى قدما على عمر، فلما قدما على عمر، قال عمر رضي الله عنه: ما هذا؟ قالا: يا أمير المؤمنين! هذا لك وهذا لنا، فقال: سبحان الله! وكيف ذلك؟ قالا: إن أبا موسى فعل كذا وكذا، فقال: وهل أعطى كل المسلمين مثلما أعطاكما؟ قالا: لا، فقال: أديا المال إن كنتما ابني أمير المؤمنين، أما عبد الله فاستحى منه، وسكت ولم يعترض، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت هذا المال لو أنه تلف أكنت تغرمنا إياه؟ قال: إي ورب الكعبة، قال: إذن ليس من حقك؛ لأن الخراج بالضمان، فما دمنا نحن الذين نضمن، فالسنة ثابتة عن أن من يخسر يضمن، فقال الصحابة: اجعله يا أمير المؤمنين قراضاً، فقسم الربح بينهما وبين بيت مال المسلمين.
فهذا قراض، وهو إجماع من الصحابة.
إذا عرفنا مشروعية المضاربة، فإنه يرد
Q هل أخذ الفائدة والعائدة منزل منزلة القراض؟ أولاً: لماذا شرع الله المضاربة؟
صلى الله عليه وسلم شرع الله المضاربة؛ لأن عندك مثلاً مائة ألف، وأنت مشغول بطلب علم، أو مشغول بعمل آخر، وغير متفرغ لضربه، أو ليست عندك خبرة في التجارة، وهناك عامل عنده خبرة، فالشريعة رفقت بالمجتمع من هذا الباب، فهذا العاطل الذي ليس عنده عمل اتفق مع هذا الغني، فأخذ المال، فاستفاد الناس من عمله، وخبرته، وتجارته، واستفاد هو من النماء، واستفاد رب المال من الربح، فحصل الرفق للمجتمع بوجود التجارة، والرفق لرب المال بوجود جزء الربح، والرفق للعامل بوجود الكسب الذي يكون من جزء الربح، فشرعت من أجل هذه المقاصد العظيمة، واليسر والرحمة والتخفيف على الأمة.
أما بالنسبة للمال الذي يدفع للبنك والمصرف إذا وردت عليك شبهة، وقيست على شيء، فقرر الأصل وادرسه من كل جوانبه، ثم انظر فيما قيس عليه، هل الشبه كامل أو ناقص؟ فنقول: أولا: ً بالنسبة للمضاربة يقول العلماء: أن يدفع رب المال للعامل المال على أن يتجر به، والربح بينهما على ما شرطا، فعندما يدفع العميل للبنك أو المصرف هل يقوم البنك بالعمل والتجارة؟ الجواب: لا.
وليس هناك أي مادة تخول لهم أن يدخلوا إلى الساحة ويتعاملوا مع الناس؛ لأن أصل تجارة البنك تقوم على حفظ الأمانة، وإنما رخص لهم بالحفظ، ولا يؤذن لهم بأن يقوموا أنفسهم بالتجارة أو منافسة التجار، هذا معلوم وثابت، نتاجهم إنما يكون بأن يأخذوا منك مليوناً، ومن الثاني مليونين، ومن الثالث مائة ألف، ثم تؤخذ هذه وتعطى لأشخاص ديناً على أن يردوها بعوائدها، فأصبح لا حقيقة للعمل، أما المضاربة ففيها ضرب، وتجارة، ولكن الإيداع ليس فيه ضرب ولا تجارة، فأصبح قياساً مع الفارق.
ثانيا: ً في المضاربة الشرعية يدفع رب المال للعامل المال على أن يتجر به، والذي يضمن الخسارة هو رب المال، لكن البنك إذا تاجر بمال العميل، فإنه يلتزم برده كاملاً، ولذلك فإن جميع المواد تنص على أن الوديعة المصرفية دين على البنك وليست بمجال للاستثمار، حتى في القانون ينصون على أنها تأخذ حكم القرض، وهذا موجود، ومن رجع إلى المواد يجد هذا جلياً واضحاً.
إذاً: ليست بيد تجارة، وإنما هي يد ضمان، ويد العامل في المضاربة يد أمانة، وبالإجماع: لا يضمن العامل إلا إذا فرط، فلو أعطيت عاملاً مائة ألف وذهب وتاجر، ثم احترق المال بدون تفريط منه، فلا يضمن، كأن كسد السوق بدون تفريط منه، ونحو ذلك.
لكن لو قصر، كما لو اشترى التجارة من أرض بعيدة، وبإمكانه أن يحضرها عن طريق البر وعن طريق البحر، وفي طريق البحر الموج هائج، وفي زمان شديد البرد، وكثير الرياح، فجاء وخاطر وأدخل السفينة في البحر فغرقت، فإنه يضمن؛ لأنه قصر.
إذاً: العامل لا يضمن في المضاربة؛ لكن إذا دفع العميل المال للمصرف، فإن المصرف يلتزم برد المبلغ كاملاً إن خسر، إذاً: هناك شبه وفارق مؤثر.
ثالثاً: حينما يعطي رب المال للعامل مائة ألف على أن يتجر بها، فإنه يدخل والربح محتمل؛ لكن بالنسبة للعقود المصرفية يلتزم المصرف بإعطاء هذا الاستحقاق الذي هو (5 %) أو (10 %)؛ حتى إن العميل إذا لم يأخذ الاستحقاق قاضاهم قضاءً وقانوناً في قانونهم، وطالبهم بهذا الذي تم الاتفاق عليه.
إذاً: هناك اختلاف بين هذا وذاك.
رابعاً: المضاربة يكون نتاجها من معاملة شرعية، فلو ضارب بحرام لحرمت الأرباح، وأما بالنسبة للمصرف فإنه يأخذ هذه العوائد من الديونات بالفوائد المركبة، فلو كانت مضاربةً فإنها ناشئة من معاملة محرمة، كما لو أخذ المضارب المال وتاجر به في الميتات، أو في المحرمات؛ لحرمت تجارة المضاربة.
كذلك أيضاً لو سلمنا فرضاً أنها مضاربة، أو في حكم المضاربة كما يقولون: إن المضاربة تختلف باختلاف الحال؛ فلو قال: إن هذه الأحكام كلها اجتهادية، وليس فيها نص، فنقول: إذا كانت اجتهادية فأنت بالخيار بين أمرين: - إما أن تبقى على الأصل المجمع عليه بالمضاربة.
- وإما أن تلغي المضاربة من أصلها.
فإن بقيت على المُجْمَع عليه فلا يتفق مع ما ذكرت، وإن ألغيتها من أصلها فهو عقد تقيس عليه، وما قيس على باطل فهو باطل حقيقةً.
وعلى هذا: فإن هذه الشبهة غير واردة؛ لأنه لا يصح لا من جهة تركيب أركان المضاربة وشروطها الشرعية، ولا من جهة النتاج، وما يؤخذ أو يركب على العوائد.