قال رحمه الله: [وتصرف المشتري فسخ لخياره]: المصنف رحمه الله جاءنا بثلاث جمل بعضها مرتب على بعض: فقد بيّن مسألة ملكية المبيع أثناء مدة الخيار، وأنه لا يجوز أن يتصرف أحدهما في المبيع لا البائع ولا المشتري في مدة الخيار، ثم بين ما يترتب على التصرف لو وقع، فهذه ثلاثة أشياء بعضها مرتب على بعض، ثم ذكر رحمه الله هذه الجملة وهي أيضاً تابعة لما قبل فقال رحمه الله: [وتصرف المشتري فسخ لخياره]: والمعنى أن المشتري إذا تصرف فسخ خياره، وإذا تصرف في المبيع فقد أفسد الخيار ورفعه، فكأنه حينما تصرف أسقط حقه؛ لأن الإسقاط إما بالقول وإما بالفعل، وقد سبق وأن نبهنا وقلنا: إن الخيار يمكن لكلا الطرفين أن يسقطه أثناء المدة، فمثلاً: لو أنني اتفقت معك على أننا بالخيار ثلاثة أيام، ثم اتفقنا على إمضاء البيع وإسقاط الخيار بعد يوم، فإنه إذا مضى اليوم تم البيع، وحينئذٍ لا يلزمنا أن ننتظر إلى الثلاثة أيام، فإذاً: معنى ذلك أنه إذا اتفق الطرفان على إسقاط الخيار فإنه.
فلو قال: بعني هذه الأرض بمائة ألف قال: قبلت، على أن لي الخيار شهراً، قال المشتري: وأنا أيضاً لي الخيار شهراً، فالبيع بينهما معلق على خيار لمدة شهر، فقبل تمام الشهر، بل ولو بعد ساعة من العقد واتفقا على أنهما يمضيان البيع، ويرفعان ما اتفقا عليه من الخيار، كان لهما، لكن بشرط أن يتفق الطرفان، فكما أن لهما أن يثبتا ذلك الخيار، فمن حقهما رفع الخيار.
لكن لو أن أحدهما أسقط خيار نفسه فهل يسري الإسقاط إلى خيار الآخر؟
صلى الله عليه وسلم لا، فأنا لو قلت لك: بعتك هذه العمارة بعشرة آلاف، فقلت: قبلت على أن لي الخيار شهراً، قلت: وأنا أيضاً لي الخيار شهراً، فجئت وقلت: يا فلان! إني قد أتممت الصفقة -والخيار قد عدلت عنه والذي اخترته إمضاء الصفقة وكان هذا في اليوم الثاني- حينئذٍ أسقطت الخيار الذي لي، وأصبح البيع لازماً لي؛ لكن تبقى أنت على خيارك شهراً كاملاً، ففي هذه المدة لو أنني مت، وبقيت أنت فإنك تبقى على خيارك شهراً إن شئت أمضيت وإن شئت ألغيت.
وقد تقدم أن إسقاط الخيار يكون بالقول ويكون بالفعل، فلو أن المشتري تصرف في المبيع، فإن دلالة الفعل تنزل منزلة القول، ولذلك ذكرنا في بيع المعاطاة أن الأفعال تقوم مقام الأقوال، وأنها دالة -إذا لم تكن محتملة- وكانت صريحة في الدلالة تدل كما تدل الأقوال على ما تتضمنه من دلائل، فمثلاً: لو أن رجلاً أخذ منك العمارة على أنه بالخيار ثلاثة أيام، وجاء خلال الثلاثة أيام وتصرف تصرفاً ما، بهبة أو نحوها فهذا يدل على أنه قد أمضى البيع، ورضي بإتمام البيع، فكأنه يقول: أسقطت خياري، أو لا خيار لي، وعلى هذا قال: [وتصرف المشتري فسخ لخياره].
قال رحمه الله: [ومن مات منهما بطل خياره]: أي: إذا باعه سلعة على أنهما بالخيار أسبوعاً أو ثلاثة أيام، ثم مات أحدهما خلال المدة، فإنه يبطل الخيار في حقه ويبقى الخيار في حق الآخر، فالمصنف رحمه الله قال: (بطل خياره) والضمير عائد إلى الميت، ومفهوم ذلك أنه لا يبطل خيار الطرف الثاني؛ كما ذكرنا في المسألة الأولى أنه إذا أسقط أحدهما خياره فليس من حقه أن يلزم الآخر بإسقاط الخيار.
وقد اختلف العلماء هل يرث الورثة الخيار، أو لا يرثون؟ فبعض العلماء يرى أن الورثة يرثون، وهذا القول قواه غير واحد، وقالوا: إن الملكية للأموال تنتقل إلى الورثة، ولذلك لا يتصرف المريض مرض الموت في ماله إلا في حدود الثلث، وكأن المال قد صار في حكم الملكية للورثة، وعلى هذا قالوا: كما أنهم يرثون العين يرثون الاستحقاقات، ومن الاستحقاقات الشفعة والخيار، ونحوها من الأمور التي يكون فيها حق للميت، فتنتقل إلى ورثته؛ لأنهم كما يستحقون المال بعينه يستحقونه بوصفه، ويستحقون العقد عليه إذا كان مرتباً على شرط بذلك الشرط الذي أوجبه مورثهم، فهم يملكون الخيار، فعلى هذا القول: يبقى الخيار للورثة إن شاءوا أمضوا الصفقة وإن شاءوا ألغوها.