بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [ومحرم ميت كحي، يُغسل بماء وسدر]: تقدم بيان الأحكام المتعلقة بغسل الميت، وبعد أن بين المصنف رحمه الله صفة الغسل وهي الصفة التي يمكننا أن نصفها بأنها عامة، شرع رحمه الله في بيان الصفة التي تتعلق بالنوع المخصوص، وهو المحرم، والمراد بالمحرم: من تلبس بالإحرام، فدخل في أحد النسكين، الحج أو العمرة.
ثم إن المصنف رحمه الله لما بدأ بالصفة العامة، وأتبعها بالصفات الخاصة دلنا ذلك على المنهج الفقهي، وهو أن الإنسان إذا أراد أن يبين أمرين: أحدهما عام، والثاني خاص، أن يبين القاعدة العامة أولاً، ثم بعد ذلك يبين ما استُثني من هذا العموم، أو هذه القاعدة.
فبعد أن بين لنا صفة الغسل عموماً قال رحمه الله: (والمحرم كحي) أي: أن المحرم حكمه حكم الحي إذا مات، وذلك من جهة كونه يُمنع من الطيب ويُمنع من إلباسه المخيط، كما سيأتي -إن شاء الله- تفصيله.
قوله: [ومحرم ميت كحي]: المحرم وصف إنما يصدق على الإنسان إذا تلبس بأحد النسكين وهما الحج أو العمرة، ولذلك يقال: أحرم بالشيء إذا دخل في حرماته، كما يقال: أنجد إذا دخل نجداً، وأتهم إذا دخل تِهامة.
فالعلماء -رحمهم الله- يقولون: أحرم إذا نوى أحد النسكين أو هما معاً.
بناءً على ذلك: لو أن الإنسان نوى العمرة أو نوى الحج فخرج دون أن يصل إلى الميقات، أو قبل أن يصل إلى الميقات ثم توفي، أو كان في الميقات واغتسل من أجل أن ينوي، ثم توفي، فإننا نعامله معاملة الحي الذي ليس بمحرم، ونغسله بالصفة التي تقدمت، ولا يحضر علينا أن نمسه بالطيب وغيره من محظورات الإحرام.
فيشترط أن يكون المحرم قد تلبس بالنسك، فلو خرج لأجل العمرة كأن يخرج من مكة إلى الحل سواءً التنعيم أو غيره، ثم في الطريق توفي، فإننا نعامله معاملة الحلال، والعكس بالعكس، فلو أنه نوى ثم بعد النية مباشرة توفي، كما إذا لبى بأحد النسكين أوهما معاً فقال: لبيك حجاً، أو: لبيك عمرةً، أو: لبيك عمرةً وحجاً، ثم توفي فإنه بعد دخوله في نسك الإحرام نحكم بكونه يعامل معاملة المحرم سواءً بسواء، كذلك أيضاً لو مضى فأتم عمرته، وقبل أن يتحلل ولو بلحظة واحدة توفي، كأن يكون طاف وسعى بين الصفا والمروة، ثم توفي قبل أن يحلق أو يقصر فإنه لا زال في حكم المحرم، ونعامله معاملة المحرم، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
ولو أنه في الحج رمى جمرة العقبة ثم توفي ولم يتحلل، أو توفي عشية عرفة كما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو ليلة العيد، فإننا لا نحكم بمعاملته معاملة الحلال، بل نبقيه على حكم المحرم، ونحكم بالمحظورات في حقه كما نحكم بها في حق الحي.
يقول رحمه الله: [ومحرم ميت]: يعني إذا مات المحرم.
[كحي]: أي: حكمه حكم المحرم الحي، فلا نمسه بالطيب، ولا يخمر وجهه، ولا يغطى رأسه، وكذلك بقية المحظورات، والأنثى والرجل في المحظورات كل على تفصيل.
والأصل في هذا الحكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واقفاً بعرفة، ووقف معه أصحابه رضي الله عنهم فسقط رجل من على دابته فوقصته فقتلته، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا وجهه، ولا تغطوا رأسه) وفي رواية السنن: (ولا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فلما قال عليه الصلاة والسلام: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) اعتبرها الأصوليون رحمة الله عليهم بمثابة التعليل، أي: أمرتكم أن تنزلوه بهذه المنزلة، وأن تحظروا عليه هذه الأمور؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، فكأنه يقول لهم: حكمه حكم المحرم سواءً بسواء.
فلذلك قال المصنف رحمه الله يجمل هذه الأحكام: [ومحرم ميت كحي] أي: في تغسيله وما يُحظر عليه كالحي.
وقوله: [يغسل بماء وسدر]: لأنها السنة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر)، وللسدر خاصية في طرد الهوام وكذلك في جلد الإنسان وظاهر بدنه.
قوله: [ولا يُقَرَّب طيباً]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تمسوه بطيب) فهذا يدل على أنه لا يطيب، ولأن المحرم يحظر عليه الطيب، وهذا نص حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) فنهى عليه الصلاة والسلام عن الطيب في البدن والطيب في الثياب.
وقوله: [ولا يُلْبَسُ ذكرٌ مخيطاً]: ولا يلْبس الذكر المخيطَ، فالذكر محظور عليه المخيط، والمخيط: ما أحاط بالعضو، وليس المراد به أنه يُخاط، كما سيأتي تفصيله في الحج، فبعض الناس يظن أن المخيط: ما فيه خيط، وهذا خطأ، فما من ثوب إلا وفيه خيوط، وإنما المراد بالمخيط: ما أحاط بالعضو، ودليلنا على هذا الأمر الذي نص عليه جماهير العلماء أن المخيط أو الثوب الذي يحيط بالعضو محظور: أن النبي صلى الله عليه وسلم حظر إحاطة العضو في أعلى البدن، وإحاطته في أوسطه، وإحاطته في أسفله، وإحاطته كله، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تلبسوا القمص -والقميص كان لأعلى البدن- ولا العمائم -وهي تحيط بالرأس- ولا السراويلات)، فمنع من إحاطة أسفل البدن بقوله: (السراويلات) وأعلى البدن بقوله: (القمص)، وأعلى أعلاه بقوله: (العمائم)؛ لأن العمامة ليست مخيطة، وإنما تحيط بالرأس وتغطيه، ومن ثم قال العلماء: إنه إذا أحاط بالعضو فإنه يأخذ حكم المخيط، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولا البرانس)، وهذا من دقته عليه الصلاة والسلام في اختيار المناسب للحكم، وهو من أمثل ما يكون في الشمولية في منهج التشريع.
ووجه ذلك: أن الثياب منها ما يتعلق بأعلى البدن، ومنها ما يتعلق بأسفله، ومنها ما يجمع الجميع؛ فالبرنس فيه غطاء للرأس، وفيه غطاء لجميع البدن، ففصل كل جهة.
وعلى هذا فإن من الأخطاء الشائعة الذائعة الآن والتي أصبحت تنتشر: تفصيل ثياب الإحرام بوجود ما يجعلها في حكم الفوط، وهذا النوع الذي انتشر الآن يُجعل له أزارير، فيأتزر بإحرامه ثم يظن أن هذا خارج عن المخيط، فوضعوا له زراً من الحديد، وهذا من وهمهم، فيظنون أن المخيط ما كان فيه خيط، والواقع أن المراد بالمخيط: ما أحاط بالعضو.
ومن لبس المخيط فإن عليه الفدية، ومن لبس هذه الأزر التي يكون فيها الحديد فإنها تأخذ حكم ما فصل للبدن؛ لأنها تعتبر كالمحيطة بالبدن، لأنها فصلت على البدن تفصيلاً لا على سبيل الإزار المعهود المعروف.
وقوله: [ولا يُغطى رأسه]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس العمائم، والعمامة تغطي الرأس، وسميت عمامة لأنها تعم الرأس بالغطاء.
[ولا وجه أنثى]: هذا على الأصل في الإحرام في حديث عبد الله بن عمر في صحيح البخاري: (ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) على أن المرأة في الإحرام إحرامها في وجهها وكفيها، فإذا رأت الرجال الأجانب سدلت، كما في حديث أسماء رضي الله عنها وكذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وحديث أسماء أقوى من حديث أم المؤمنين عائشة: (أنهن كن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر بهن الركب سدلت إحداهن خمارها)، فدل على أن السدل يستثنى من هذا، وعلى هذا فإنه لا يُغطى.
وقوله: [ولا يغسل شهيد]: شرع رحمه الله في بيان الأحكام الخاصة بالشهيد، والمناسبة بين الشهيد والمحرم، أن كلاًّ منهما فضله الله عزَّ وجلَّ، وشرفه وكرمه وخصه بهذه الخصائص.
فالمحرم لا يعامل معاملة الحلال، تشريفاً له وتكريماً وعاجل بشرى، ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) أي: يبعث على هذا الخير، وعلى هذه الطاعة التي قبض الله روحه وهو متلبس بها.
كذلك فإن الشهيد به آثار طاعة، وآثار قربة هي من أحب القربات وأجلها عند الله تبارك وتعالى، وهي الشهادة في سبيل الله عزَّ وجلَّ.
والشهيد سمي شهيداً: قيل: لأن الملائكة تشهده، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جابراً رضي الله عنه لما قتل أبوه يوم أحد جعل يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، فما زال يبكي، فقال له: (ابكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله حتى رفعته إلى السماء)، فقالوا: إنه لفضله سمي شهيداً.
وقيل: لشهادة الخير له.
وقالوا: إنه سمي شهيداً لأن الملائكة تشهده، بمعنى تحضره، ويقال: شهد الشيء إذا حضره، قال تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44] أي: من الحاضرين، فشهود الشيء: الحضور.