قال رحمه الله تعالى: [أحدها الوقت].
قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، ولما كانت صلاة الجمعة صلاة دخلت في هذا العموم، فلا تصح صلاة الجمعة قبل وقتها، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها في ميقات معين.
ووقت الجمعة فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، يبحث في أوله وآخره، فأول الجمعة للعلماء فيه قولان: قال بعض العلماء: أول وقت صلاة الجمعة هو أول وقت صلاة الظهر، وذلك بزوال الشمس.
وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، ومنهم الإمام أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد في رواية عنه.
والدليل على ذلك حديث أنس في الصحيح أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تزول الشمس)، وهذا ثابت وصحيح، وكذلك حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس وخطب حين زالت الشمس).
فهذه الأدلة تدل على أن الجمعة يبتدئ وقتها بزوال الشمس؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولأن الجمعة قائمة مقام الظهر ووقتها في وقت الظهر، فيكون ابتداء وقتها بزوال الشمس.
وذهب الإمام أحمد -في رواية- وطائفة من أصحابه وبعض أهل الحديث إلى أن وقت الجمعة يبتدئ في وقت صلاة العيدين، وذلك بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، فمن ارتفاع الشمس قيد رمح تجوز صلاة الجمعة.
واحتجوا بحديث ابن سيدان أنه شهد الصلاة مع أبي بكر وإن النهار لم ينتصف، وشهدها مع عمر والنهار قد انتصف، وشهدها مع عثمان وذلك بعد زوال النهار.
قالوا: هذا يدل على أن أبا بكر رضي الله عنه أوقعها قبل الزوال، فدل على أن وقتها يبتدئ قبل الزوال، وليس هو وقت الظهر.
وهذا الأثر عن ابن سيدان فيه إشكال، وذلك للكلام في سنده بالطعن بالجهالة، وقال الإمام البخاري: إنه لا يتابع عليه.
كما أنه معارض من وجوه: أولاً: ما في مصنف ابن أبي شيبة عن سلمة رضي الله عنه وأرضاه: أنه شهد الجمعة مع أبي بكر فصلاها حين زالت الشمس.
وهذا يعارض ما ورد عنه، مع أنه أقوى ثبوتاً.
ثانياً: ما في الموطأ عن عمر رضي الله عنه في طنفسة عقيل بن أبي طالب التي كانت توضع عند الحجرات، وكانت تفيء عليها الشمس.
وهذا يدل على أنه ما صلى عمر رضي الله عنه إلا بعد بداية الزوال.
ثالثاً: أن نفس هذا الأثر فيه نظر، وذلك أنه من الصعوبة بمكان أن تعرف اللحظة التي عندها تزول الشمس، وهذا أمر معروف، ولا يمكن إدراكه إلا بحسابات دقيقة جداً، وذلك العصر عصر أبي بكر وعمر وعثمان، ولم تكن هناك الموازين والآلات الحاسبة الدقيقة، فالأمور نسبية تقريبية، فقوله: (فصلاها حين زالت الشمس) أي: ابتداء صلاته وخطبته كان عند الزوال، أي أنه كان يعجّل بحيث يجلس على المنبر ويسلم على الناس كأن الشمس لم تتحرك ويتيقن زوالها، ثم جاء عمر -ومعروف احتياط عمر رضي الله عنه- فكان عند الزوال يجعلها بتأخر قليل عن أبي بكر، وكان عثمان رضي الله عنه يجعلها بعد الزوال تحرياً أكثر، ولذلك أحدث النداء الثاني رضي الله عنه وأرضاه، وعلى هذا يكون الأثر محتملاً.
ثم لو أنه سلم به فإنه ليس بقوي صحيح؛ لأنه معارض بأثر عن الصحابة أنفسهم أبي بكر وعمر، ثم هو معارض بما هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ويبقى الإشكال في حديث جابر: (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وخطب حين زالت الشمس).
وجوابه: أن الصلاة والخطبة ابتدأت عند زوال الشمس على الأصل الذي قررناه، ومراد جابر أن ابتداء الصلاة كان على وصف الإنسان بكونه مصلياً بابتداء الخروج، ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم من خرج إلى الصلاة بكونه مصلياً، فكأنه يقول: ابتداء الصلاة كان عند الزوال.
لا أنه عليه الصلاة والسلام صلى وخطب حين زالت الشمس، فليست دلالة حديث جابر رضي الله عنه دلالة صريحة، والقاعدة في الأصول: إذا تعارض الصريح وغير الصريح قدّم الصريح على غير الصريح.
فإن حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس) يدل على أن صلاته عليه الصلاة والسلام وقعت عند ابتداء ميل الشمس، بمعنى أنه خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتداء صلاة الجمعة عند الزوال، ثم إن الأصل يؤكد هذا، خاصة أن الجمعة في حكم صلاة الظهر، ولذلك من فاتته الجمعة صلاها ظهراً بالإجماع، وعلى هذا فإنه يقوى القول الذي يقول: إن الجمعة لا تصلى إلا بعد زوال الشمس.
قوله: [وآخره آخر وقت صلاة الظهر].
أي: آخر الجمعة آخر وقت صلاة الظهر، وذلك حين يصير ظل كل شيء مثله، فمن انتهى من صلاته قبل أن يصير ظل كل شيء مثله فإن صلاة جمعته مجزئة.
ولكن اختلف العلماء لو أنه خطب وطوّل في خطبته، وأحرم بالصلاة بعد أن صار ظل كل شيء مثله، أو خطب وابتدأ الصلاة قبل أن يصير ظل كل شيء مثله، وفي أثناء الصلاة صار ظل كل شيء مثله، فخرج عليه الوقت أثناء الصلاة، فمنهم من يقول: العبرة بخطبته.
ومنهم من يقول: العبرة بتكبيرة الإحرام.
ومنهم من يقول: العبرة بالركعة الأولى.
وهو أقواها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف من أدرك الركعة بكونه مدركاً للصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، فأقوى الأقوال أن العبرة لركوعه في الركعة الأولى، فإن كبّر لركوعه في الركعة الأولى قبل أن يصير ظل كل شيء مثله أجزأه، أما لو كبّر للركوع في الركعة الأولى بعد أن صار ظل كل شيء مثله يتمها أربع ركعات، فيتمها ظهراً ولا يتمها جمعة.
قال رحمه الله تعالى: [فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوها ظهراً وإلا فجمعة].
هذا -على ما ذكرناه- أحد أقوال العلماء، وهو أن العبرة بالتحريمة، والصحيح أن العبرة بالركعة الأولى على ظاهر النص، ولذلك يعتد بإدراك وقته بهذه الركعة، كما لو أدرك الإمام في الركعة الأولى فإنه يعتبر مدركاً لصلاة الجمعة ويتم ركعة معها، وهذا يدل على أن العبرة بإدراك الركعة وليست العبرة بإدراك تكبيرة الإحرام.