بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يشترط لصحتها شروط ليس منها إذن الإمام].
الجمعة وقعت موقع صلاة الظهر، ولذلك قالوا: إنه لا بد من وجود شروط معتبرة للحكم بالاعتداد بهذه الجمعة، والحكم بصحتها وإجزائها شرعاً.
قوله: [يشترط] الشرط في اللغة: العلامة، وفي الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.
قوله: [ليس منها إذن الإمام].
هذه مسألة خلافية، فبعض العلماء يقول: لا تقع الجمعة إلا بالإمام العام أو بإذنه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماماً عاماً وجمَّع بالناس وصحت الجمعة، فهم يرون أن الأصل أن تصلي الظهر، فلا تنتقل من الظهر إلى الجمعة إلا على الصفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جمَّع وهو الإمام العام قالوا: لا يعتد بالجمعة مع الإمام العام، ولما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أن يجمعوا بالمدينة كان هذا بمثابة أصل في الإذن العام، ويشترط الإذن العام الحنفية رحمة الله عليهم ومن وافقهم.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط الإذن العام.
والذي لا شك فيه أنه لا تقام الجمعة حتى يرجعوا إلى من هو موكّل بالنظر في الجمعة؛ لئلا يفتح للناس سبيل التلاعب بالجمعة، فكل جماعة سيفتحون في مسجدهم جمعة، وقد وقع هذا بين الأحياء، فإنهم ربما يتنافسون، وربما يكون فتحهم للجمعة في حيّهم أشبه ما يكون بالاستغناء عن الحي الآخر، فلا يعتد بالجمعة إذا تعددت مساجدها من دون عذر، فلو أن أهل حي قالوا: نفتح مسجداً عندنا ونصلي فيه الجمعة.
وفعلوا ذلك بدون إذن، وبدون وجود فتوى من عالم، أو الرجوع إلى الموكل بالنظر في مثل هذه المساجد فإنه حينئذ لا يعتد بهذه الجمعة ولا تجزئ؛ لأنها أشبه ما تكون بالتلاعب والاحتيال، وقد قرر جمع من العلماء أنه لو أقدم أهل حي على إحداث جمعة في حيهم على سبيل النفرة من الحي الآخر، أو على سبيل الأنفة من الذهاب إلى الجمعة في الحي الآخر دون وجود عذر فإن مسجدهم مسجد ضرار، ولا يعتد بجمعتهم، والجمعة للمسجد الأول القديم، ولم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جمعتان، بل كانت في مدينته صلوات الله وسلامه عليه جمعة واحدة، مع أنه كان الأنصار في قباء بينهم وبين المسجد ثلاثة أو أربعة أميال، وكانت طائفة منهم من العوالي، ولذلك أُمر الناس بالغسل يوم الجمعة، كما قالت عائشة: كانوا يغشون الجمعة من العالية -والأرض أرض زراعة وفيها الغبار- فعلت منهم زهومة -أي: بسبب العرق في الطريق-، ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أهل العالية أن يجمِّعوا، فقالوا: إنه لم يعرف إقامة جمعتين في بلدة واحدة.
وأول ما وقع ذلك في عهد بني العباس، وإلا فعهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم تجمع فيه جمعتان، وكان أهل قباء يصلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد بني العباس، فإنه وقعت حادثة حاصلها أن الناس في بغداد كان بعضهم في شط وبعضهم في شطر آخر ليس فيه المسجد الجامع، وكان الناس في يوم الجمعة على الجسر يزدحمون، وربما سقط بعضهم ومات، فاشتكوا إلى الخليفة فاستأذن الخليفة القاضي أبا يوسف رحمه الله صاحب الإمام أبي حنيفة أن يجمع أهل الشط الثاني، وقد كانت بغداد عامرة، فقد قيل: إن فيها ما لا يقل عن ثلاثمائة أو أربعمائة مسجد في ذلك الزمان، ومع ذلك لم يرخص لهم إلا بعد وجود الضرورة، فلما وجدت الضرورة أمرهم أن يجمعوا وأن يعيدوها ظهراً احتياطاً، وكل ذلك خوفاً من هذا التعدد الذي لم يعرف له أصل أن لا يكون معتداً به.
ولكن الصحيح أنه يجوز تعدد الجمعة عند الحاجة وبإذن الإمام، أي: بعد الرجوع إلى أهل العلم، أو أناس مختصين بهذا أذن لهم في مثل هذه الأمور.
أما أن يقيم أهل كل حي وأهل كل منطقة الجمعة في حيهم ومنطقتهم فلا، ولذلك ينبغي الرجوع إلى المساجد المعتد بها، ومن هنا قال العلماء: وإن تعددت الجمعة فالجمعة للعتيق، أي للمسجد القديم، والسبب في هذا أن ما أحدث من بعده دخيل عليه، وقد قال الله في كتابه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فجعل المسجد القديم أحق، فدل على أنه إذا أحدث مسجد ثان من دون حاجة لجمعة أن الجمعة الثانية لاغية.
وذهب بعض العلماء إلى التفصيل، قالوا: لو أحدثوا بدون إذن إمام وجمعوا نظر إلى أسبق الجمعتين، فمن أوقع صلاته قبل الثاني فالجمعة له.
وهذا ضعيف، ويقول به بعض أصحاب الشافعي رحمه الله.
والصحيح -كما قال جمع من الأئمة- أن العبرة بالمسجد القديم، سواء أوقعت جمعته قبل أم وقعت من بعد، فهو الذي يعتد بجماعته على ظاهر التنزيل، وهو قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108].
أما لو كان الناس في بلد فيه أقلية مسلمة، ويريدون أن يصلوا الجمعة، فقد قال أهل العلم من فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة: لا حرج إذا كانوا في بلد ليس فيه إمام أن ينتدبوا منهم إماماً ليصلي بهم إذا بلغوا العدد وتوفرت فيهم شروط الجمعة في محل إقامتهم واستيطانهم.