ما تدرك به فضيلة الجماعة

قال رحمه الله تعالى: [ومن كبر قبل سلام إمامه لحق الجماعة].

إذا دخلت إلى المسجد والإمام في التشهد الأخير ففي هذه الحالة تعتبر غير مدرك للركعة؛ لأن من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة، وهناك أمران عند العلماء: أحدهما: حكم الصلاة مع الجماعة.

وثانيهما: فضل الجماعة.

فهناك فرق بين الحكم وبين الفضل، يُقال: أدرك الفضل.

ويقال: أدرك الحكم.

وإدراك الحكم شيء، وإدراك الفضل شيء آخر، فإذا كان الإنسان قد أدرك ركعة فأكثر مع الإمام فقد أدرك الصلاة، فلو أدركت ركعة فأكثر، كأن دخلتَ في صلاة الظهر فأدركت الإمام في الركعة الأخيرة، وكبرت وركعت معه فأنت مدرك للصلاة، وكذلك الحال لو أدركته يوم الجمعة في الركعة الأخيرة، فأنت مدرك للجمعة، وحكمك حكم المجمّع.

الحالة الثانية: إدراك الفضل، وهو على صورتين: الأولى: إدراك الفضل الحقيقي بالدخول مع الجماعة الأولى الذي يتضمن إدراك فضلها وقتاً.

الثانية: إدراك فضلها ثواباً، ولكن دون ثواب من أدركها كاملة، وهناك إدراك فضلها بمطلق الخروج.

فأما إدراك فضلها الذي يكون دون إدراك الحكم فكما لو أدركته قبل التسليم وقلت: (الله أكبر)، فانتهيت من تكبيرة الإحرام قبل أن يسلم فقد أدركت فضل الجماعة، وبناءً على ذلك قال بعض العلماء: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة) محمول في رواية السبع والعشرين على من أدركها من أولها، وأجر الخمس والعشرين لمن أدرك آخر أجزائها، فيكون أقل ما يدركه الإنسان في فضل صلاة الجماعة الخمس والعشرين جزءاً، وإذا أدركها من ابتدائها فيدرك سبعاً وعشرين درجة، ويتردد بين الفضيلتين، فهذا بالنسبة لإدراك الفضيلة.

وتوضيح هذين الأمرين يتضح بصلاة الجمعة، فلو أن إنساناً أدرك الإمام في يوم الجمعة في الركعة الأخيرة فقد أدرك الجمعة، ويتم ركعة واحدة، لكنه لو أدرك الإمام بعد الرفع من الركوع ولم يدرك الركعة الأخيرة نقول: أدرك فضيلة الجمعة ويتمها ظهراً؛ لأنه لم يدرك الحكم، فهناك فرق بين حكم الجمعة وبين فضلها، وبين حكم الجماعة وبين فضلها.

وبناءً على هذا فمن أدرك الإمام قبل تسليمه ولو بلحظة فكبر فإنه مدرك للفضيلة، وبناء على ذلك لو دخلت ولو قبل تسليم الإمام بلحظة فإن الجماعة الأولى التي تدركها أفضل من الجماعة الثانية التي ستصلي معها، خلافاً لمن اختار من بعض الأئمة أنه ينتظر ويقيم جماعة ثانية، وهذا فيه إشكال من وجوه أشهرها وجهان: الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم فصلوا)، وهذا عموم؛ حيث لم يفرق بين إدراك الحكم وإدراك الفضيلة، وهذا نص لا يحتاج إلى اجتهاد، ولم يقل: إلا أن يكون قبل السلام بلحظة فجمعوا، وإنما قال: (فما أدركتم فصلوا).

الوجه الثاني: أنك لو دخلت مع الجماعة الأولى أدركت فضيلة الجماعة الأولى في الوقت، ولكن لو تأخرت وأحدثت جماعة ثانية فقد فاتك من الفضائل ما الله به عليم؛ لأنه ربما تكون اللحظة بين أول وقت الصلاة وبين التي تليها كما بين السماء والأرض.

وفي الحديث: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها -أي: الكامل- ولما فاته من وقتها خير من الدنيا وما فيها)، فربما أن الجماعة الأولى ستأخذ الركعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة فيها أجزاءً من الوقت، وقد تطول الصلاة، فعندما تدخل مع الإمام قبل تسليمه ولو بلحظة فقد أدركت فضيلة الوقت، وكان لك حكم الجماعة الأولى التي أدركت من فضل الوقت ما لم تدركه الجماعة الثانية.

ومن هنا ترجح قول الجماهير أنه يدخل مع الجماعة الأولى، ولكن استحب بعض العلماء أنه لو دخل بجواره من يفقه ويعلم أن يقول له إذا دخل بعد الركعة الأخيرة: إذا سلم الإمام فائتم بي.

فإذا سلم الإمام فإنه يقتدي هذا المتأخر بالمتأخر، ولو كانا اثنين دفعهما وراءه ثم صلى بهما، أما لو أدرك ركعة فأكثر فلا يحدث جماعة ثانية، فيكون مدركاً لفضيلة الجماعة الثانية ومدركاً لفضيلة الجماعة الأولى، وهذا أنسب الوجوه وأحبها عند طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم.

قال رحمه الله تعالى: [وإن لحقه راكعاً دخل معه في الركعة وأجزأته التحريمة].

الضمير في [وإن لحقه] راجع إلى الإمام، فإن لحق الإمام راكعاً أدركه، أي: إذا كبر تكبيرة الإحرام فإنه يعتبر مدركاً لتلك الركعة ما لم يرفع الإمام رأسه، وبناء على ذلك فإن أصح أقوال العلماء -وهو مذهب الجمهور- أن من أدرك الإمام راكعاً وركع معه فإنه يعتبر مدركاً للركعة وتسقط عنه الفاتحة.

وهناك حديث في ذلك صحيح قوي، وهو حديث أبي بكرة رضي الله عنه: أنه انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تَعُدْ)، فروي بلفظ: (ولا تَعْدُو)، ولفظ: (ولا تُعِد)، وأصحها: (ولا تَعُد) أي: لا تعد إلى التأخر عن الجماعة حتى تضطر إلى هذا الفعل.

وقيل: (لا تَعُد) بتكبير دون الصف والمشي؛ لأنه حركة في أثناء الصلاة، وأما رواية: (لا تعْدُ) فلأن المساجد القديمة المفروشة بالحصى إذا أسرع الإنسان فيها شوش بصوت الحصى، وهذا موجود إلى الآن، فقال: (لا تعدُ)؛ لأن الصلاة تحتاج إلى سكينة.

وأما رواية: (ولا تُعِد) أي: لا تعد الركعة فقد أجزأتك، والروايتان الأخيرتان أضعف من الرواية الأولى، وهي: (ولا تَعُد)، أي: لا تعد إلى هذا التأخير الموجب لفوات الفضل عليك.

و (راكعاً) في قوله: [وإن لحقه راكعاً] حال، أي: حال كونه راكعاً، وبناءً على ذلك فأنت حينما تدرك الإمام راكعاً فأنت على أحوال: الحالة الأولى: أن تنتهي من التكبير والانحناء قبل أن يُسمّع الإمام ويرفع رأسه؛ لأن هنا شيئين: شيئاً يصدر منك وهو التكبير، وشيئاً يصدر من الإمام وهو التسميع والرفع من الركوع.

فعندنا أمران لا بد من بيانهما لتفصيل أحكام الإدراك، فالذي يفعله المكلف التكبير والانحناء لكي يدرك الركوع، والذي يفعله الإمام التسميع والرفع من الركوع، فالذي يدرك الإمام راكعاً إما أن يقول التكبير ويفعل الانحناء، بمعنى أن يركع قبل أن يتلفظ الإمام ويرفع رأسه، وبناءً على ذلك تكون قد أدركت القول والفعل قبل أن يكون من الإمام القول والفعل، فحينئذٍ لا إشكال أنك مدرك للركوع عند من يقول: إن إدراك الركوع يوجب إدراك الركعة.

الحالة الثانية: أن تدرك القول ولا تدرك الفعل قبل رفعه، بأن تقول: (الله أكبر)، ثم يقول الإمام: (سمع الله لمن حمده) قبل أن تحني رأسك، أو قبل أن تركع، ففي هذه الحالة إذا انتهيت من راء (أكبر) قبل أن يبتدئ الإمام بالسين من (سمع الله لمن حمده) فأنت مدرك للركعة؛ لأنك بتكبيرك قد دخلت، وتسقط عنك التكبيرة الثانية؛ لأنها داخلة في الأولى، وبناء على ذلك يجزئ المكلف في قول الجماهير تكبيره واحدة لإدراك الركعة، كما اختاره المصنف ودرج عليه.

وبناءً على هذا فالعبرة بانتهائك من قولك: (الله أكبر)، فإن ابتدأ الإمام بالسين من (سمع) أثناء تكبيرك، أو قبل ابتدائك التكبير فتبقى واقفاً؛ لأنك لم تدرك الركوع، وقد أدركت الرفع من الركع، فتبقى واقفاً لم تدرك الركعة ويلزمك قضاءها.

الحالة الثانية: أن تبتدئ بالتكبير وترى الإمام أمامك رافع الرأس قبل أن يسمع كما يفعل بعض الأئمة، فيسبق الفعل القول، فأنت تراه أمامك قد رفع رأسه، فإذا رفع قلت: (الله أكبر)، قبل أن تسمع منه الصوت فحينئذ أنت مدرك ولا عبرة بالفعل؛ لأن العبرة بالانتقال الذي هو التسميع، قال صلى الله عليه وسلم: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، وأمر عليه الصلاة والسلام من أدرك الإمام على حالة أن يدخل معه عليها، وقوله: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة) نص في أن إدراك الركوع يوجب ثبوت إدراك الركعة، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) فإنه عموم مخصص بالنصوص السابقة، كحديث أبي بكرة الصحيح، وحديث: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، ثم إننا نقول: إن إيجاب قراءة الفاتحة محله إذا وسع الوقت لقراءتها، وهذا لم يسع الوقت له بالقراءة، وبناء على ذلك لا يجب عليه أن يقرأ الفاتحة ولا يلزمه ذلك، وتسقط عنه، والركعة مجزئة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015