قال رحمه الله تعالى: [وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فإن كان في نافلة أتمها إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها] هذه العبارة تعتبر جملة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح، وأصله قصة وقعت لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة فأقيمت الصلاة فكبر رجل ودخل في الصلاة، فلمّا سلّم النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (يا هذا بأي الصلاتين اقتديت؟ أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟) وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاً)، وهذا الحديث يتضمن النهي عن الدخول في صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة المفروضة.
فقوله: [إذا أقيمت الصلاة] معناه: إذا كان الإنسان في المسجد وأقيمت الصلاة الحاضرة [فلا صلاة] أي: لا يجوز له أن يبدأ في صلاة إلا المكتوبة التي أقيمت.
وبناءً على ذلك فلو كان يريد التنفل، كأن يصلي الفجر القبلية ويكون ذلك عند الإقامة أو بعد الإقامة فإنه ينهى عن ذلك، ويعتبر فعله هذا محرماً ومنهياً عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلا صلاة إلا المكتوبة)، والنفي في قوله: (فلا صلاة) يتضمن النهي؛ إذ لم يفرق بين صلاة وأخرى.
وهناك فائدة ثانية، وهي أن هذا الحديث دلنا على أن التعارض بين الواجب وغير الواجب الذي هو أدنى منه يوجب تقديم الواجب لعلو مرتبته في الشرع، ووجه ذلك أنه إذا أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فإنك مخاطب بواجب حاضر وهو الصلاة مع الجماعة، والتنفل دون هذا الواجب، وبناءً على ذلك تقطع هذه النافلة وتدخل في الفريضة مع الجماعة.
وفيه دليل على فائدة ثالثة، وهي أن الإسلام يريد من المسلمين أن يكونوا جماعة واحدة، ولا يريد التفرق حتى في أشرف العبادات وهي الصلاة، ولذلك منع المصلي أن ينفرد عن الجماعة في المسجد، وكما أنه في الابتداء يدخل مع الجماعة فكذلك عند الانتهاء، فلو دخلت قبل تسليم الإمام ولو بلحظة فإنك تدخل مع الجماعة، وحينما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أنه سيكون عليهم أئمة يؤخرون الصلاة قال الصحابي: ماذا أفعل؟ قال: (صلِّ الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم) أي: لا تشذ عن الجماعة، وقال للرجلين لمّا صليا بعد يوم النحر بمنى ثم جاءا إلى ناحية من المسجد فلم يصليا: (ألستما بمسلمين؟) أي: لو كنتما مسلمين لكنتما مع جماعة المسلمين قالا: بلى يا رسول الله.
ولكنا صلينا في رحالنا.
قال: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا؛ فإنها لكما نافلة) يقول العلماء رحمة الله عليهم: وهذا كله يؤكد أمر ولزوم جماعة المسلمين ما أمكن، حتى في أشرف المواطن وأعظمها وهي الصلاة.
فلو فتح للناس أن يتنفلوا أثناء الفريضة لتفرقت جماعة المسلمين، وأصبح هذا يصلي الرغيبة وهذا يصلي تحية المسجد، فلا يدري الإنسان وهو داخل عن حال الجماعة، لكنهم إذا صلوا وراء إمام واحد، واقتدوا بإمام واحد كان ذلك أبلغ في الاجتماع والاتئلاف، وهذا هو مقصود الشرع من صلاة الجماعة.
وللإنسان عند إقامة الصلاة حالتان: الحالة الأولى: أن تقام الصلاة ثم يبتدئ النافلة، وهذا محرم بالإجماع، فلا يشرع في النافلة بعد إقامة الصلاة، سواءٌ أكانت في أول الإقامة أم بعد الانتهاء من الإقامة، أم في أثنائها، فإذا قال المؤذن: (الله أكبر)، يقيم الصلاة فإنه يحرم على الإنسان أن يكبر لنافلة أو غيرها.
وقد استثنى بعض فقهاء الحنفية المتأخرين رحمة الله عليهم رغيبة الفجر، فتجدهم ينفردون يصلون ولو كان الإمام في الأولى، واحتجوا بحديث ضعيف: (إلا رغيبة الفجر)، ولكنه لا يقوى على استثناء هذا النص الصحيح الصريح، وبناءً على ذلك فإن العمل على ما عليه جماهير العلماء من أنه لا يجوز إذا أقيمت الصلاة أن يبتدئ المصلي بصلاة نافلة أياً كانت هذه النافلة.
الحالة الثانية: أن تقام الصلاة وأنت في أثناء الصلاة، فإن غلب على ظنك أنك سوف تتم الصلاة قبل أن يركع الإمام ويمكنك أن تدرك الركعة معه فحينئذ تتم الصلاة على قول جماهير العلماء، خلافاً للظاهرية وأهل الحديث، حيث قالوا: إذا أقيمت الصلاة -حتى ولو غلب على ظنك أنك تدرك الإمام في ركوعه- فإنك تقطع هذه الصلاة، ولو كنت في آخرها؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا صلاة إلا المكتوبة) والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن الله يقول -كما في التنزيل-: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، فنهانا عن إبطال العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير أعمالكم الصلاة)، فنهانا الله عن إبطال العمل، والصلاة عمل، فلا نبطلها إلا بوجه بين، فإنه إذا غلب على ظنك أنك مدرك للركعة جمعت بين الأمرين، والقاعدة: (الجمع بين النصين أولى من العمل بأحدهما وترك الآخر).
ثم إننا نقول: إن قوله: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة) هو نص في ابتداء الصلاة، وليس المراد به إلغاء الصلاة التي من قبل، وبناءً على ذلك فإنه يقوى أن يكون المعنى: (فلا صلاة ابتدءاً)، ويؤخذ المعنى منسحباً إلى كل صلاة تؤدي إلى فوات جزء الصلاة ركعة فأكثر.
وقوله: [فلا صلاة إلا المكتوبة].
المكتوبة هي المفروضة؛ لأن الكَتْب يطلق بمعنى الفرض، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] أي: فرض ووجب ولزم عليكم الصيام، فالكتب هو الفرضيّة والوجوب، فمن هنا يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) أي: المفروضة الحاضرة.
وقوله: [فإن كان في نافلة أتمها إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها]: أي: إن كان في نافلة فإنه يتمها إن وسعه الإتمام دون أن تفوته الركعة، وأما إذا كانت الركعة سوف تفوته فإنه يقطعها ويدخل في الجماعة.