ومن هنا تبين لنا: أن حديث أنس بن مالك المتقدم: لا يحمل على أن المراد من ذلك أثناء خروجه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يخالف قوله ما ثبتت الشريعة بمثله من قول الصحابي الذي لا يعلم له مخالف، وهو مذهب الجمهور، وهم يشرعون القصر بمجرد الخروج ولا يقيدونه بثلاثة أميال ولا بثلاثة فراسخ، والحديث المتقدم عن أنس قد قيده بثلاثة أميال أو فراسخ.
ثم إنه قد سئل عن قصر الصلاة فدل على أن المراد من ذلك المسافة التي يقصر فيها.
إذن: متى ما فارق قريته أو مدينته أو خيام قومه فإنه يقصر الصلاة حتى يرجع، ويستمر في القصر حتى يدخلها – وهو مذهب جمهور العلماء وهو ثابت عن علي ولا يعلم له مخالف.
فإن قيل: قد قال تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقيده الله بالخوف وقد أمن الناس؟
فالجواب: أنه ثبت في مسلم عن يعلى بن أمية قال: (سألت عمر عن قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقد أمن الناس فقال: " أني عجبت مما عجبت منه فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (صدقة الله تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) ".
ويمكن أن يستدل بهذا على الإيجاب لقوله: " فاقبلوا " وظاهر الأمر الوجوب.
والحمد لله رب العالمين.
هنا ثلاث مسائل تتفرع عن المسألة السابقة وهي أن مسافة القصر أربعة بُرد:
المسألة الأولى: أن من شك في المسافة هل هي أربعة برد أم لا؟
فلا يقصر حتى يتيقن ذلك لأن الأصل – في المشهور من المذهب – عدم السفر، فإذا ثبت هذا فإنه لا يقصر حتى يتيقن أن البلدة التي يسافر إليها بعدها مسافة قصر.
وقد تقدم أن الراجح أنه متى ثبت كونه مسافراً فإنه يثبت بذلك القصر.
وما ذكره الحنابلة ينبني على القول الراجح، فإذا أراد أن يذهب إلى محل ولم يثبت له كونه سفراً فإنه لا يقصر، إن شك في هذا الموضع هل هو موضع سفر أم لا.