أما حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي هو في سنن أبي داود وهو حديث صحيح، فقد ذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه موعظة قال فيها: (إن العبد إذا كان في إقبال على الآخرة وفي إدبار من أمر الدنيا يأتيه ملك الموت، فيقول مخاطباً روح هذا الإنسان: اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج نفس الإنسان المؤمن تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، ثم يأتي إليها ملائكة من الجنة يجلسون من ملك الموت على مد البصر، فإذا قبضها لم يتركوها في يده طرفة عين، فتأتي ملائكة الرحمة معهم أكفان من الجنة وحنوط من الجنة، يحنطون هذه الروح الطيبة ويطيبونها ثم يأخذونها في أكفان الجنة ويصعدون بها إلى السماء ولها أعظم وأجمل وأطيب ريح وجدت، فلا تمر على أحد بين السماء والأرض إلا قال: ما هذه الريح الطيبة؟! فيقولون: ريح فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا.
فهذه نفس سعيدة طيبة يفرح بها في الملأ الأعلى، يصعدون بها إلى السماء فإذا بالله عز وجل يقول: أعيدوها إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد الروح إلى القبر للسؤال -وكما قلنا على هيئة غير ما كانت عليه في الدنيا، هيئة الله أعلم بها- فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فألبسوه من الجنة وأفرشوه منها، وأروه منزله من الجنة، فيفرح العبد حين يرى منزله في الجنة، فيريد أن يذهب إليه، فيقال له: نم نومة العروس، فيقول: يا رب! أقم الساعة، كي أرجع إلى أهلي ومالي، ويمثل لهذا الرجل في قبره رجل يخرج عليه، جميل الوجه طيب الريح حسن الثياب، فيقول له: أبشر بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك، يقول: من أنت، فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الطيب، أنا عملك الصالح، والله ما كنت أعلمك إلا سريعاً إلى طاعة الله، بطيئاً عن معصية الله، فجزاك الله خيراً فالعمل مثله الله سبحانه وتعالى على هذه الصورة، فهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وعلى العكس من ذلك الإنسان الخبيث الفاجر والكافر إذا كان في انقطاع عن الآخرة وإقبال على الدنيا، يأتيه ملك الموت يقبض روحه، ويقول: يا أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب -وذلك لأنها كانت نفساً بعيدة عن الله سبحانه- فيفزع هذا الكافر وتتفرق روحه في الجسد، فينتزعها ملك الموت كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، وتنزل ملائكة من النار معهم مسوح من النار، فلا يدعونها في يده طرفة عين، بل يأخذونها ويصعدون بها ولها ريح منتنة، فلا تمر على أحد بين السماء والأرض إلا قال: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقال: فلان بن فلان، بأخبث أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، فيصعدون إلى السماء، فيقول الله سبحانه وتعالى: أعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتلقى من السماء، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، تهوي أرواحهم من السماء، فالملائكة لن ينزلوا بها ويكرموها، بل يرمونها من السماء إلى مكانها في قبرها، ويأتيه في قبره ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ويمثل له رجل أسود الوجه منتن الريح قبيح الثياب، فيقول له: أبشر بشر يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك، فيقول: من أنت، بشرك الله بالشر، فوجهك وجه يأتي بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث والله ما علمتك إلا بطيئاً عن طاعة الله سريعاً إلى معصية الله فجزاك الله شراً، فيقول الله عز وجل -عندما لا يجيد هذا العبد الجواب-: أن كذب عبدي، فافرشوه من النار، وأروه منزله في النار، ويضرب في قبره ضربة بمرزبة يصرخ منها صرخة يسمعها كل شيء -إلا الثقلين الإنس والجن- ولو سمعها الإنس والجن لصعقوا، حتى وهو في جنازته محمول يصرخ ويقول: يا ويله إلى أين تذهبون به، فلما رأى منزله من النار وجد أن القبر أرحم له من النار، ولذلك يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة)، فأصبح له القبر حفرة من حفر النيران والعياذ بالله.
هذا الحديث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أخذ حوالي خمس دقائق هو أقصى ما قاله صلى الله عليه وسلم عند القبر.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتعهدهم بالموعظة في كل جنازة يتخولهم بها، بل كان أحياناً يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم، فلذلك تستحب الموعظة عند القبر أحياناً، وتكون موعظة يسيرة قليلة فيها الأمر بتقوى الله، والتذكير بالرجوع إلى الله سبحانه، كأن يكون فيها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، ويقال للحاضرين: اسألوا لأخيكم التثبيت؛ فإنه الآن يسأل، فيسألون الله عز وجل أن يثبت الميت ويثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.
إذاً: فالموعظة عند القبور لا تكون في كل مرة، وإنما يكون ذلك أحياناً بحيث لا يمل الناس، ولا يبتدع في ذلك بدعاً وأشياء تبعد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.