فلذلك لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم في فترة من الفترات عن زيارة القبور؛ لأنه خشي من أن يصنعوا ما كانوا يصنعونه في الجاهلية من التفاخر بالقبور، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2] أي: ألهاكم التفاخر فيما بينكم، حتى إذا انتهى عدد الأحياء فذهبتم تعدون الأموات، تقولون: هذه قبور أصحابنا فلان وفلان، كل هؤلاء من أهلينا، فهذا التكاثر والتفاخر بالأحياء والأموات ألهاهم عن ذكر الموت، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الذهاب إلى القبور، حتى استقر التوحيد في القلوب، وذهب عنهم أمر الجاهلية والعصبية والافتخار بالآباء والأجداد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم ويؤدبهم صلوات الله وسلامه عليه، ويحذرهم ويقول: (لينتهين أقوام عن فخرهم بالآباء، أو ليجعلنهم الله أحقر من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه)، أي: يجعلهم مثل الخنفساء التي تدهده الغائط بأنفها، يقول للإنسان: إما أن نترك الافتخار بالآباء، أو يجعلك الله عز وجل أحقر من هذه الخنفساء، فعلى الإنسان أن لا يفتخر بالآباء، بل يفتخر بتقواه لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فإن الإنسان إنما يرتفع بتقواه لله سبحانه تبارك وتعالى، وبطيبة قلبه وبحبه لله عز وجل وبعمله الصالح، أما أن يقول: أبي كان كذا وجدي كان كذا، فهذا من أفعال وأقوال أهل الجاهلية، الذين كانوا يفتخرون بالآباء والأجداد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ويؤدبهم، ومن ضمن هذا التعليم منعهم صلى الله عليه وسلم من الذهاب إلى المقابر، فلما استقر أمر التواضع في القلوب، وابتعدوا عن الافتخار بالآباء والأجداد، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تذكر الآخرة)، أي: اذهبوا لزيارة القبور ليس للافتخار بالآباء والأجداد والتكاثر بهم، وإنما زوروها لتتعظوا بهؤلاء الأموات الذين كانوا مثلكم يسيرون فوق الأرض وقد صاروا الآن تحتها، وكانوا يفتخرون على الخلق وقد صاروا الآن تحت التراب، فلعلكم تعتبرون حين ترون هذه القبور، وحين ترون ما صار إليه هؤلاء، فريق في الجنة وفريق في السعير.