وقد أورد الإمام النووي رحمه الله تعالى حديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه).
الشفاعة مصدر (شفع) ومعنى (شفع): أنه جاء مع غيره، كما يقال: صليت شفعاً، أي: أن تضم ركعة إلى ركعة، فتصير ركعتين شفعاً، وعكس الشفع الوتر.
فكأن الميت يجيء وحده إلى ربه سبحانه وتعالى، فأنت تأتي شفيعاً مع هذا الميت فتدعو لهذا الميت، فتكون الثاني معه في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وهو محتاج إليك، فأنت تشفع في هذا الإنسان وترجو من الله عز وجل أن يغفر له.
ولذلك فإن الصلاة على الميت تحتاج إلى الإخلاص، فمن يصلي على الميت عليه أن يخلص في دعائه، فيدعو الله سبحانه وتعالى للميت ويتخيل نفسه في مثل هذا الموقف، فحين تدعو للميت تخيل نفسك أنك أنت هذا الميت، وحينئذ ادع للميت بالشيء الذي تريد أن يدعى لك به، ولا تقل: هذا قريب، أو: هذا غريب، أو: هذا صغير، أو: هذا كبير، بل هذا ميت، وغداً ستكون أنت مكان هذا الإنسان.
والمقام ليس مقام رياء، ليس مقام من يتقدم ليصلي على الميت المجرد التقدم والإمامة، بل هو مقام إخلاص، فنخلص في الدعاء للميت جميعنا، سواء أكنا أئمة أم مأمومين، فنحن نصلي على الميت وندعو له، وهذا المسكين في هذه الحالة محتاج للدعاء، ومحتاج للتثبيت، ومحتاج لأن تدعو ربك بأن ينور له قبره، فالقبور مظلمة على أصحابها، والله ينورها سبحانه عليهم بالصلاة على نبيه صلى الله عليه، وكذلك ينورها بأعمالهم، وبشافعة من يقبل شفاعتهم في هذا المتوفى.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة)، فالمقصود هنا أمة من المؤمنين، لا أن يأتي نصارى فيصلوا عليه، فقوله: (أمة من المسلمين) كأن المقصود به الإسلام الحق الخالص، أن تسلم وجهك وقلبك لله سبحانه وتعالى، وأن تسلم نفسك لله سبحانه، ولذلك جاء في بعض الروايات: (لا يشركون بالله شيئاً).
فالمقصود: إنسان مسلم على الحق يلتزم بدين الله سبحانه وتعالى، ويرضى بالله سبحانه، ويصبر على قضائه وقدره، فهذا المسلم الذي يسلم نفسه لله ويسلم أمره له ويفوض أمره إليه سبحانه يصلي على هذا الإنسان المتوفى، وكله يقين بأن الله رحمن رحيم، وأن الذي شرع هذه الصلاة ما شرعها إلا ليخفف عن هذا الميت، وليقبل شفاعة الشافعين في هذا الإنسان، وتراه وقت الصلاة على الجنازة لا يسلك سبيل الجدل، كما يحصل في الجنائز من كثير من الناس، همهم الجدل، حيث يكون الميت قد مات قبل فترة، فيتركونه، حتى إذا أتوا المسجد قالوا: أسرعوا بالجنائز، ويأتون بالأحاديث في هذا الباب، والميت في بيته منذ البارحة، فما قالوا في الليل: أسرعوا بالجنائز.
ولكن حين يأتون إلى المسجد يقوم الشيطان فيركب عقولهم.
إن الصلاة صلة بينك وبين الله عز وجل، والإنسان المؤمن يحب المسجد ويحب الصلاة، فيقبل على صلاته، ويحرص على حضور تكبيرة الإحرام في المسجد.
وكم من أناس تفوتهم تكبيرة الإحرام بسبب هؤلاء المتعجلين، فإذا أردت أن تصلي ركعتين يقول لك أحدهم: أقم الصلاة.
وإذا لم يكن الإمام قد دخل بعد قالوا: لا يهم حضوره؛ فأي واحد يمكن أن يتقدم ويصلي، وبعضهم قد يتبرع بنفسه فيقيم الصلاة لوحده من أجل أن يصلي الناس معه.
فهؤلاء حمقى ومغفلون وأغبياء بعيدون عن دين الله سبحانه وتعالى، فإذا مات الميت كان همهم رميه في المقبرة، وليس همهم أن يحضر الكثيرون من المصلين حتى يصلوا على هذا المسكين المحتاج لصلاتهم، بل هم الواحد منهم أن يفرغ من هذا الميت وكأنه يجامل أهل الميت بالكلام الذي يقوله، وكم من إنسان يشكو من ذلك ويقول: إني مواظب على تكبيرة الإحرام ثلاثين يوماً، وأرغب في إكمال أربعين يوماً، ثم جاءت جنازة في المسجد، فضاعت علي تكبيرة الإحرام، وكل ذلك بسبب هؤلاء المتعجلين.
والأصل في الإنسان المؤمن أن يخلص لله تعالى في الصلاة على الميت، وأن يتصور نفسه مكان الآخرين، فحين تجد مظلوماً ضع نفسك مكانه، فالمظلوم محتاج إلى من يدافع عنه، فأنا سأدافع عن هذا الإنسان المظلوم ما دام في قدرتي أن أفعل ذلك، وإذا وجدت إنساناً ميتاً والناس منتظرون ليصلوا عليه فلا تقل: هؤلاء أناس كثيرون سيصلون عليه، فأنا سأذهب، ولكن قل: لو كنت الميت فسأتمنى أن الكثيرين يصلون علي، إذ يمكن أن واحداً منهم مستجاب الدعوة، فيستجيب الله عز وجل دعوته لي.
ففي وقت الصلاة على الميت نحتاج إلى الإخلاص تبارك وتعالى، ولا يهم من يتقدم ليصلي على الميت.