روى أبو داود عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (كان للنبي صلى الله عليه وسلم قصعة يقال لها: الغراء)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي ما يملكه، فيسمي الفرس الذي يركبه، ويسمي الحمار الذي يركبه، والناقة التي يركبها، ويسمي القصعة التي يأكل فيها عليه الصلاة والسلام.
فهذه القصعة كان يقال لها: الغراء، وكأنها كانت بيضاء، أو لما يوضع فيها من لحوم وغيرها، قال: (يحملها أربعة رجال) فهذه القصعة كان لا يقدر على حملها إلا أربعة رجال، وهذا من كرمه صلوات الله وسلامه عليه، فكان يملأ هذه القصعة ويضعها لأصحابه ليأكلوا قال: (فلما أضحوا وسجدوا الضحى أتي بتلك القصعة) أي: كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الفجر ويجلس في مصلاه يذكر الله سبحانه إلى وقت الضحى، فلما صلوا الضحى أتي النبي صلى الله عليه وسلم بتلك القصعة، قال: (وقد ثرد فيها) يعني أنه موضوع فيها خبز عليه اللحم، قال: (فالتفوا حولها، فلما كثروا جثا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فالقصعة كان يحملها أربعة رجال، فحجمها قد يكون مثل الطست، فإذا جلسوا حولها وهم مجموعة لن يسعهم المكان، فكان لابد أن كل إنسان يأخذ ويبتعد عنها قليلاً لتتسع الدائرة ويكفي المكان للجميع، فلما وجدهم قد كثروا جثا عليه الصلاة والسلام أي: اعتمد على ركبتيه، أي: جلس على ركبتيه على هيئة القاعد للتشهد في الصلاة، فرآه أعرابي فقال: (يا رسول الله! ما هذه الجلسة؟) ولم يكن الأعرابي متعوداً على ذلك؛ إذ تلك الجلسة جلسة إنسان خاشع في صلاة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعلني عبداً كريماً ولم يجعلني جباراً عنيداً)، فهو عبد لله سبحانه، كرمه الله بهذه الرسالة العظيمة.
وأما الجبابرة والملوك وأشباههم، فإن أحدهم يجلس ليأكل لوحده، وحوله الحراس قائمين يحرسونه، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يجلس مع غيره ويأكل كما يأكل غيره، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، فعليه الصلاة والسلام.
وكان يمنعهم أن يمدحوه بما ليس فيه عليه الصلاة والسلام، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا: عبد الله ورسوله)، عليه الصلاة والسلام.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان يأكل: (كلوا من حواليها ودعوا ذروتها يبارك فيها)، فالقصعة كانت كبيرة يحملها أربعة رجال، ولكن مع ذلك كان عددهم كبيراً، ويمكن أن تنفذ بسرعة، فأمرهم بأن يتأدبوا بأدب الطعام، فكل واحد يأكل مما يليه ولا أحد يمد يده إلى وسط الصحفة.
والعادة أنه في وسط الصحفة يوضع لحم أو نحوه فيصبر الإنسان حتى يبلغ هذا المكان فيأخذه منه، فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأدب، وعلمهم تلك الجلسة، فلم يجلس متكئاً، وهذا الأدب يجيء في الباب الآتي، حيث يقول الإمام النووي: [باب كراهية الأكل متكئاً].
والمراد بذلك التمكن من الأرض، وقد جاء في ذلك حديث رواه البخاري عن أبي جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا آكل متكئاً) والمتكئ إذا كان قاعداً متربعاً على الطبلية أو على الأرض فمعنى ذلك أنه سيأكل كثيراً.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فما كانت هذه عادته، وليس بحرام أنك تجلس متربعاً من أجل أن تأكل، إنما قال صلى الله عليه وسلم: أنا لا أعمل هذا ففيه بيان أن ذلك خلاف الأولى، ولم يحرم ربنا علينا ذلك، بل قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أدباً من الآداب، وهو أنك إذا أكلت أن تأكل شيئاً وتدع شيئاً، فاجعل في معدتك الثلث لطعامك والثلث لشرابك والثلث لنَفَسِك، فإذا جلست متكئاً فمعنى ذلك أنك ستأكل كثيراً، ولعلك تتخم بهذا الطعام.
يقول الخطابي: المتكئ هو الجالس المعتمد على وطاء تحته قال: أراد أنه لا يقعد على الوطاء والوسائد كفعل من يريد الإكثار من الطعام.
وهذا ليس بحرام، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم قال: لا أعمل هذا الشيء.
فلا يجلس جلسة تدعو للإطالة، وكذلك النوم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينام على سرير من حبال، فيوضع له عليه شيء عليه الصلاة والسلام، كثوب مثني ثنيتين، فينام عليه وتؤثر حبال السرير في جنبه صلى الله عليه وسلم.
وفي مرة ثني ما يوضع على السرير أكثر مما كان يثنى، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم تلك النومة مريحة زيادة على ما يلزم، ومعنى ذلك أن الإنسان لن يقوم ليصلي صلاة الليل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يثنى كما كان.
ونحن اليوم ننام على قطن لم يره النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نام عليه عليه الصلاة والسلام، ولم يحرم ذلك، ولكن يعلمنا أن مثل هذا الشيء يعود الإنسان على الراحة، فإذا تعود على الراحة يبقى دائماً يريد أن ينام على السرير الوثير من أجل أن يستريح، فإذا أراد أن يصلي بالليل وجد السرير ممتعاً فيقول: لا أريد أن أقوم، ويضيع الفجر، ثم يقوم في الضحى وقد فاته الصبح.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم أزهد خلق الله عليه الصلاة والسلام في نومه، وكذلك إذا قعد كان يقعد على الأرض صلى الله عليه وسلم، ولا يجعل تحته وسادة، ولا يجعل تحته شيئاً، خاصة عند الأكل، وإن كان في غير الأكل قد يجلس على وسادة عليه الصلاة والسلام.
يقول الخطابي هنا: بل يقعد مستوفزاً لا مستوطئاً، ويأكل بلغة، وأشار غيره إلى أن المتكئ هو المائل على جنبه، وهذا أشد فالمتكئ يقعد متربعاً، وهذا ليس حراماً، ولكن لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ خوفاً من كون هذه الجلسة تدعو للإكثار، بحيث يقعد فيأكل فترة طويلة فيمتلئ، فما كان يفعل ذلك، إنما كان يجلس صلى الله عليه وسلم مستوفزاً، وهي جلسة الجاثي يجثو على ركبتيه، أو أنه يقعد على رجل وينصب الأخرى ويضع عليها يده صلى الله عليه وسلم، وهي جلسة الذي لا ينوي أن يقعد طويلاً؛ لأنها جلسة متعبة، فكان في طعامه يجلس كذلك عليه الصلاة والسلام.
وقال البعض ممن فسر الحديث: المتكئ الذي كره النبي صلى الله عليه وسلم جلسته أن يجلس متكئاً على أحد جنبيه، كما يحصل أحياناً أن يكون الإنسان متكئاً على الأرض على مرفقه ويأكل بيده الثانية وهو على هذه الحال، فهو قاعد مستريح همه في الطعام، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل هذا، بل قال: (لا آكل متكئاً)، وفي حديث لـ أنس رواه مسلم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مقعياً يأكل تمراً) أي أنه جالس على مقعدته.