عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة قال: وكان رسول صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا!)، والنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره الله عز وجل {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكل إنسان يحافظ على نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم أكثر محافظة عليكم منكم على أنفسكم فهو: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، عليه الصلاة والسلام.
ونجد هذا في وصاياه وتأديبه لأصحابه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فقد كانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، فيقول لهم: (قولوا: ما استطعنا)، فيأخذ عليهم البيعة وهو أرحم بهم من أنفسهم فيقول: (قولوا: ما استطعنا) أي: لعلكم لا تقدرون على بعض هذه الأشياء فيكون لكم عذر عند الله سبحانه وتعالى.
وهنا كذلك فإن مالك بن الحويرث ومعه أقارب له قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وهم شببة متقاربون، أي: شباب قد تركوا أهلهم وتركوا بلادهم وقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منه، ومكثوا عنده عشرين ليلة، فلما أقاموا عنده كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً خلقه الرحمة والرفق، قال: فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا أي: فظن صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون الرجوع؛ لذلك لم يتركهم حتى يقولوا: نريد أن نرجع، ولكن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم جعلته هو الذي بدأ فسألهم عمن تركوا وراءهم، فكأنه يذكرهم ارجعوا إلى أهليكم يكفيكم ما قد تعلمتم، وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بهؤلاء وبغيرهم.
قال: فأخبرناه فقال: (ارجعوا إلى أهليكم)، أي: الذي تعلمتموه هنا اذهبوا وعلموه أهليكم؛ ليكون لكم الثواب في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم وأمروهم، وصلوا صلاة كذا!) في حين كذا! وربما أنه ظن أنهم غير متقنين لمواقيت الصلاة فعلمهم صلاة كذا! في حين كذا! وصلاة كذا في حين كذا، قال: (وصلوا كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم).
يجوز (وليؤُّمكم أكبركم) ويجوز (وليؤَّمكم أكبركم) والأولى أوجه في اللغة لأن أصلها من أممه ففيها ميمان يأمم والجازم وقع على الثانية والأولى ما زالت مرفوعة فلذلك حركتها أولى بالبقاء هنا، فإن قيل: لماذا يؤمهم أكبرهم والمعروف أنه يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله؟ لماذا لم يقل: يؤمكم أعلمكم بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب لا يصح هذا في هذه الحالة؛ لأنهم مكثوا عشرين يوماً مع النبي صلى الله عليه وسلم ولو حفظوا سيحفظ جميعهم مثل بعض، ولم يحاول أن يحفظ أحدهم أكثر من الثاني، فلم يبق تفاضل بينهم إلا بالسن، فطالما أنهم كلهم ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وقت واحد وأخذوا العلم وحفظوا من القرآن خلال عشرين ليلة مثل بعض فلم يبق إلا (وليؤمكم أكبرهم)، وهذا لا يعارض ما جاء في أحاديث أخرى عنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإذا كانوا فيها سواء فأقدمهم هجرة).
فيقدم الأحفظ لكتاب الله ثم الأعلم والأفقه بدين رب العالمين ثم الأقدم هجرة والأكبر سناً، لكن إذا لم يوجد إلا خيار واحد بأن يكونوا متساويين في القرآن والسنة والهجرة لم يبق إلا بالسن، قال: (وصلوا مثلما رأيتموني أصلي)، والغرض هنا بيان وصية النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم التوديع للمسافر وقد وصاهم حين ودعهم وأمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم بالصلاة وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم فإن آخر ما سمعوا منه: (الصلاة وما ملكت أيمانكم) أي: الزموا الصلاة، واحرصوا على الصلاة، لا تتركوا الصلاة، (الصلاة وما ملكت أيمانكم)، وملك اليمين هم: العبيد أي: احذروا أن تفرطوا في حق العبيد فإن الله عز وجل يقتص لهم يوم القيامة.