يقول العلماء: إن حقيقة الحياء: خلق يبعث على ترك القبيح، فالإنسان صاحب الحياء لا يعمل القبيح، أو ما يستهجن به أمام الناس، ولا يفعل ما يجعل الناس ينظرون إليه مستقبحين وهو لا يهمه أن يمشي أمام الناس على هذه الصورة، فيقولون: هو خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، والقلب الممتلئ بالإيمان يدفع المؤمن إلى هذا الخلق، فقلبه وإيمانه يدفعانه للحياء، أما القلب الفارغ فإنه يجعل الإنسان يفعل ما يشاء، والحياء فارق رئيسي بين المؤمن والكافر، فليس يتخلق الكافر بهذه الخصلة؛ لأن الكافر لا يهمه ذلك، فهو يقول: أريد أن أعيش في هذه الدنيا للدنيا، وأريد أن أتحرر، والتحرر عنده أن يقص شعره بطريقة تجعل الناس يضحكون عليه، ويمشي في الشارع وهو خالع ملابسه فلا يهمه، وتجد الناس في بلاد الكفر عديمي الحياء، تمشي المرأة متغطية في الطريق للبرد، فإذا ظهرت الشمس وشعرت بالحر خلعت ملابسها في الشارع أمام الناس! فليس لهم خلق أو دين يردعهم، والعجب أنك ترى في بلاد المسلمين من يقلد هؤلاء ويريد أن يصل إلى ما وصل إليه هؤلاء من السفالة والقذارة والحقارة في أمر دنياهم؛ لأنهم تركوا الحياء وراء ظهورهم، فتراهم يصرخون ويرقصون ويعاشر الرجال منهم النساء في الطرقات؛ لأن الحياء قد انعدم فيهم.
أما دين الإسلام: فهو إيمان في قلب الإنسان يظهر على جوارحه، فيستحيي من أن يعصي الله سبحانه وتعالى، وكأنه يرى الله أمامه، وهذه مرتبة الإحسان وهو: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإذا تشبه المسلم بهؤلاء وقال: أنا أعمل الذي أريده، أو أنا أريد أن أتحرر، فإننا نقول له: إن هؤلاء كفرة يريدون أن يتحرروا من الله ومن دينه سبحانه وتعالى، أما المؤمن فهو يعلم أنه مهما علا فهو عبد لله سبحانه وتعالى، فهو يقول: لا إله إلا الله، أي: أنا عبد لله سبحانه وتعالى، وانظروا إلى مقامات النبي صلى الله عليه وسلم التي علا فيها، فإنه كلما علا ازداد عبودية لله، يقول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، وقد شرفه ربه سبحانه بهذا الوصف العظيم فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، فرفعه إلى السماء صلوات الله وسلامه عليه، ومن ثم إلى سدرة المنتهى، فجاوز الملائكة، وجاوز جبريل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ومع ذلك يقول الله: هذا عبد لله، وقد عرف قدر جبريل وهو أعظم ملائكة الله سبحانه وتعالى وقدر خشوعه لما رآه كالحلس البالي يوم أن وصل إلى أعلى الدرجات فوقف عند قبره وجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (فنظرت إليه فإذا هو كالحلس البالي)، والحلس: هي الفرشة التي يجعلها الإنسان فوق الرحل ليجلس عليها، فهذا حال جبريل بين يدي ربه سبحانه، قال: (فعرفت فضل عبادته) أي: عرف فضل عبادة جبريل عليه السلام في ذلك الموقف العظيم، وكيف أنه يعبد ربه ويتواضع ويخشع بين يديه سبحانه.
ومن المواضع التي شرفه الله عز وجل بلفظ العبودية دعوته إلى الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، فالنبي صلى الله عليه وسلم في مقام الدعوة يعد عبداً لله سبحانه، وكذلك في مقام إنزال الكتاب عليه من السماء، قال سبحانه: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] صلوات الله وسلامه عليه.
فمقام العبودية هو مقام تشريف للعبد أن يكون فيه، فكلما ارتقى في مقام العبودية استيقن وعلم أنه عبد لله سبحانه وتعالى، إذاً فأنت عبد الله سبحانه ولست حراً، والإنسان إذا تحرر من عبودية الله وقع في أسر الشيطان وكان عبداً له، فيلعب به الشيطان كيفما شاء، فتجده يحلق شعره مثل الشيطان، ويمشي في الشارع والناس يضحكون عليه، ومع هذا يقول لك: إنها موضة! وما درى هذا أن الناس يصفونه بالحمق! وتجد هذا الغبي يقلد الغرب في كل ما يفعلون، فإذا لبسوا الشرت لبسه، وإذا لبسوا الفانيلات لبسها، فهو يقلد أسياده الذين عبدهم من دون الله سبحانه وتعالى.
ليس التحرر بأن تخرج من دينك، بل الحرية أن تعبد الله سبحانه، فيكون هو وحده الذي يحكمك سبحانه وتعالى، وهو وحده الذي يتحكم فيك، وهو وحده الذي يأمرك وينهاك، أما عباد غير الله سبحانه فهم يعبدون ملوك الموضة، فتراه يجري وراء المجلة في النهار بحثاً عن الموضة في الشعر والجزمة والشراب ونحو ذلك، فصاروا هم الذين يحكمونه، افعل كذا ولا تفعل كذا، وهو متبع لطريقهم، والناس يضحكون عليه! إذاً: التحرر الحقيقي هو أن تتحرر من أغلال الشيطان ومن الطواغيت، وأن تعبد الله وحده لا شريك له، وما الحياء إلا دليل على إيمان الإنسان، وأنه يعبد الله في تحرر من كيد الشيطان ومن هواه إلى عبودية الرب سبحانه وتعالى، وقد سبق أن العلماء يقولون: إن حقيقة الحياء: هي خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، وبعضهم يستحي أن يؤدي الحقوق إلى أصحابها، وبعضهم يستحي من العمل مع أنه شاب قادر على العمل، ومع أن البيت خال من الطعام أو الشراب فهذا حياء مذموم، وإنما النافع للإنسان أن يعمل ليؤدي حق الله سبحانه، فإذا وجد المسكين وهو قادر على أن يعينه استحيى من الله فأعان هذا الإنسان، وإذا وجد ذا الحاجة وهو قادر على أن يوصلها إليه أعانه على ذلك، فهذا خلق الحياء.