عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي)، هنا أبو ذر رضي الله عنه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أراك ضعيفاً) وأبو ذر كان إسلامه قديماً جداً، أسلم وذهب إلى مكة وجهر بإسلامه، وخاف منهم فاختبأ في الكعبة رضي الله عنه تحت ستارها حتى انصرفوا عنه، وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وأسلم معه، فخاف عليه صلى الله عليه وسلم وأمره أن يرجع، وقال له: (فإذا رأيتني ظهرت فأتني).
وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان يصدع بالحق رضي الله تبارك وتعالى عنه، إذ كان أبو ذر صدوعاً بالحق، وكان ذلك سبباً في أن الناس يبتعدون عنه، وفي آخر حياته أمره عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه أن يكون في الربذة، وقال: أنت شديد على الناس، فـ أبو ذر كان شديداً على الناس، فكان يأمرهم، وكان مذهب أبي ذر أن من كان معه فائض من المال فيجب عليه أن يخرجه، وأن يتصدق به، أي: أن الفائض من المال ليس من حقك أن يبقى معك، ولم يعلم أن هذا يجوز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه الوحي في تحريم ذلك، ثم نزل الوحي بعد ذلك بالترخيص في ذلك، فـ أبو ذر اطلع على الأمر الأول فعلم أنه لا بد من المواساة بالمال، فلما نزلت الزكاة وتقدير الأنصبة في الزكاة، فكان للناس أن يدخروا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن أبي وقاص: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فدل هذا على أنه يجوز للإنسان أن يدخر من ماله حتى يترك للورثة بعده.
لكن أبا ذر رضي الله عنه لم يطلع على ذلك، فكان يخرج على الناس في مجالسهم وفي حلقاتهم، ويأمرهم بذلك، ويحدثهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الأمر يضايقهم، أنه كلما رآهم يأمرهم بأن يتصدقوا بجميع أموالهم، فتضايق الناس منه، فشكوه لـ عثمان رضي الله عنه، فلما رفض أن يسكت، وقال: طالما أنا بين الناس فسوف آمرهم بهذا، فلما أخبروه بأن الأمر فيه سعة، وهذا كان في وقت الضيق، أبى إلا أن يحدث بما سمع رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فأمره عثمان رضي الله عنه أن يعتزل الناس، طالما أنه يرفض أن يحدث إلا بذلك فليعتزل الناس.
إذاً: أبو ذر كان شديداً، وهنا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أراك ضعيفاً)، فالشدة شيء، والقوة على العمل شيء آخر، فالقوة على أداء الأمانة هذا هو شيء آخر تماماً، أن يكون الإنسان أميراً على الناس ويقيم فيهم شرع الله سبحانه وتعالى، ويؤلف الناس حوله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ولا ينفرهم، هذا هو الذي لا يقدر عليه أبو ذر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أراك ضعيفاً).
فليست مهنتك الإمارة ولست أهلاً للإمارة، فإن الإمارة لها أهلها، وأنت لست أهلاً لها، وقال له صلى الله عليه وسلم: (وإني أحب لك ما أحب لنفسي)، يحب لنفسه صلى الله عليه وسلم الخير ويحب لـ أبي ذر ذلك، فأنت يا أبا ذر لا تطيق ما أطيقه أنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان هو القائم على أمر المسلمين عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يأمرهم ويقيم فيهم شرع الله سبحانه، لكن أبا ذر كان ضعيفاً، لا يقدر على ذلك، فقوله: (أحب لك ما أحب لنفسي) أي: أحب لك الخير كما أحب لنفسي الخير، ولكن فرق بينه وبينه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قادر على أداء هذه الأمانة؛ ولذلك اختاره رب العالمين رسولاً للعالمين وللخلق كافة، إنسهم وجنهم عليه الصلاة والسلام.
وأبو ذر لا يقدر على ذلك، فقال له: (إني أحب لك ما أحب لنفسي)، أي: أحب لك من الخير ما أحب لنفسي، فأنصحك في ذلك.
قال: (لا تأمرن على اثنين)، أي: لا تكن أميراً ولو حتى على اثنين، فإذا كنتم مسافرين معاً فلابد من الإمارة وأنت لا تصلح لذلك.
قال: (ولا تولين مال يتيم)، أي: لا تتول مال يتيم خوفاً عليه من نفسه، وخوفاً عليه من مال اليتيم، ووقد رأينا أبا ذر رضي الله عنه حتى آخر حياته يصدع بالخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فليس هذا خوفاً عليه أن يفتن رضي الله عنه، ولكن لا يقدر أن يقوم بحق هذا المال.
وكم ترى من إنسان يموت وهو يعول اليتيم ويقول: لا تحط المال في مكان كذا، لكيلا يكون فيه ربا فيأخذه ويشغله، ولكنه يأكله، ويضيع على اليتيم ماله.
ولذلك نقول: إذا كان هناك أيتام فالأولى أن توضع أموالهم مع الدولة، حتى لا يضيع المال على الأيتام بدعاوى كثير من المدعين، وكم سمعنا وكم رأينا من ذلك، إذ يأخذ مال اليتيم ويشغله له، فإما أن يهرب، وإما أن يخسر فيضيع مال اليتيم، فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم حذر أبا ذر، فأنت من باب أولى أن تبعد عن مال اليتيم، ولا تتدخل بمال اليتيم، ولا تقل: أشغله له، وإذا أردت أن تتصدق على اليتيم فأعطه صدقةً مما معك.
أما أن تأخذ مال اليتيم فاحذر من مال اليتيم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (ولا تولين مال يتيم).