قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85].
فأمره بالصفح الجميل، وأمره أيضاً بالصبر الجميل فأما الصبر الجميل فهو الصبر الذي لا شكوى فيه إلا إلى الله عز وجل، وليس فيه شكوى للخلق، وأما الصفح الجميل فهو صفح لا إنتقام فيه ولا معاتبة.
أي: إذا صفحت فلا تعاتب.
فعلمه ربه أكمل الخلق وأعلاه، قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85] فلا تعاقب ولا تعاتب، فلا معاقبة ولا معاتبة.
وقال الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] والإنسان المؤمن يتفكر في هذه الآية من سورة النور، وفيمن نزلت؟ قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22].
وقد كان هذا الخطاب لسيدنا أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد أوذي أذىً شديداً جداً، وقد كان في نبي الله صلى الله عليه وسلم، وفي ابنته عائشة رضي الله عنها، وكانت صدمته في ابن خالته الذي تكلم على ابنته، مع أنه أحسن إلى ابن خالته هذا مسطح، ومع ذلك فإن مسطحاً هو الذي رمى ابنة أبي بكر السيدة عائشة أم المؤمنين بحديث الإفك، وردد ما قاله المنافقون، فأقسم أبو بكر الصديق ألا ينفق عليه، فكأنه قال له: إنني طول عمرك أصرف عليك ثم أنت الآن تتكلم على ابنتي، فلن أصرف عليك مرة ثانية، وأقسم على ذلك.
فنرلت هذه الآية تعاتب أهل الفضل، وتعاتب أبا بكر فإن أبا بكر منزلتة عظيمة جداً عند الله عز وجل، والله لا يريد لـ أبي بكر أن ينزل عن هذه المنزلة، فإن إيمانه لو وزن بإيمان الأمة وليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم لرجح عليها ولوزنها، فقال له ربه: أنت الذي تفعل هذا ألا تريد الله يغفر لك؟ فقال أبو بكر: بلى، أريد أن يغفر لي ربي، ورجع مرة ثانية ينفق على مسطح من دون عتاب ولا غيره، وقال: لا أقطع عنه النفقة أبداً.
فقالت الآية لـ أبي بكر: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22] أي: لا تحلف مرة أخرى على قطع الخير، أي: لا يتألى ولا يقسم ولا يحلف.
قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} [النور:22] فعاتبه ومدحه، فقال له: أنت يا أبا بكر من أصحاب الفضل، فما الذي جعلك تحلف على هذا الشيء؟ فبدأ بالمعاتبة فقال له: لا تفعل هذا الشيء، ثم مدحه بأنه من أهل الفضل.
قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22] فلا بد أن ينفقوا مرة أخرى، ويرجعوا إلى النفقة عليهم.
قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] وليجعل المسلم هذه الآية أمامه، وكلما غضب يتذكرها ويتفكر فيها، وإذا أراد الانتقام تذكرها.
قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] أي: فلا تنظر لهذا الذي فعل فيك هذا الشيء، ولكن انظر إلى نفسك مع الله عز وجل، فإذا أردت أن يغفر الله لك فاغفر وسامح، واترك الناس على ما أساءوا إليك، وأحسن أنت إليهم حتى تأخذ الأجر من الله، ويعاملك الله عز وجل بالإحسان يوم القيامة.
قال سبحانه: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].
والصبر يكون على مضض وعلى غيظ، ولكن على الإنسان أن يصبر ويتجاوز ويسامح، حتى يصل إلى هذه المرتبة العظيمة، وهذا من عزم الأمور، ولا يقوى عليها إلا أصحاب العزيمة، فإذا كان عندك عزيمة وصبر وقوة إيمان فأنت داخل في هذه الآية: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].