ومن الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى: ما ذكره الإمام النووي عن ابن عباس في قصة بريرة وزوجها، وكانت بريرة أمة وزوجها عبداً، ثم حرر بريرة سادتها وأعتقوها.
والحكم الشرعي: أن الأمة إذا كانت متزوجة بعبد، ثم حررت صار من حقها أن تطلب الفسخ، أو تبقى زوجة له.
وقد طلبت بريرة حقها في عدم البقاء مع زوجها، وكان الرجل يحبها حباً جماً، وذهب يستشفع إليها بكل من يرجو شفاعته، حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بريرة: (لو راجعته).
يعني: لو ترجعين إلى زوجك؛ لأن زوجها كان يحبها حباً شديداً، وكان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم من شدة حب هذا الإنسان لامرأته، وأما هي فكانت تبغضه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لو راجعته)، وهذا نوع من الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم، يريد لو تفعلين ذلك، وكأنه يحثها عليه.
وتساءلت المرأة: يا ترى أهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم ليس لي إلا أن أنفذ، أو أن هذا تخيير؟ فسألت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله تأمرني؟)، أي: هذا أمر واجب علي، أو هذا شيء آخر؟ فقال: (إنما أشفع)، يعني: أني لا آمرك أمراً واجباً بحيث تعصين لو لم تطيعي، بل أنا أشفع، فمع أن مقامه عظيم إلا أن به من الرأفة والرحمة ما أخبر الله عنه فقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، إذ كان يمكنه أن يقول لها: نعم.
ارجعي له، فهو زوجك، وقد مكثت معه سنين فارعي العشرة، والألفة، والمودة، والرحمة.
وفي العادة أننا لا نقول مثل هذا الشيء من دون أن ننظر إلى الطرف الثاني، ومن غير أن ننظر إلى أن المرأة تُبغض زوجها، ولا تريد أن تعيش معه ولا تطيقه، فإنها لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (تأمرني؟) لو كان الأمر كما نفعل من تغليب العاطفة، لقلنا: ارجعي، وعللنا بما سبق، ولكان أخبرها صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكن قال: (إنما أشفع)، أي: أنا مجرد شافع أشفع فقط، فإن أردت الرجوع فارجعي، وإن كنت لا تريدين فالأمر عائد إليك.
فقالت: (لا حاجة لي فيه)، فقد كانت تبغضه بغضاً شديداً، وهذا من العجب أنه يحبها وهي تبغضه.